الأحد، 6 سبتمبر 2015

ما روي عن أمير المؤمنين (ع) - وصفه عليه السلام المتقين

وصفه عليه السلام المتقين

قال - بعد حمد الله والثناء عليه (1) -: إن المتقين في الدنيا هم أهل الفضائل، منطقهم الصواب وملبسهم الاقتصاد ومشيهم التواضع، خضعوا لله بالطاعة، غاضين أبصارهم عما حرم الله عزوجل، واقفين أسماعهم على العلم، نزلت منهم أنفسهم في البلاء كالذي نزلت في الرخاء رضى بالقضاء، لولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقا إلى الثواب وخوفا من العقاب. عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن قد رآها فهم منعمون (2) وهم والنار كمن قد رآها وهم فيها معذبون قلوبهم محزونة وشرورهم مأمونة وأجسادهم نحيفة وحاجاتهم خفيفة وأنفسهم عفيفة ومعونتهم للاسلام عظيمة. صبروا أياما قصارا فأعقبتهم راحة طويلة مربحة يسرها لهم رب كريم. أرادتهم الدنيا ولم يريدوها. و طلبتهم فأعجزوها. أما الليل فصافون أقدامهم، تالون لاجزاء القرآن يرتلونه ترتيلا (3) يحزنون به أنفسهم ويستثيرون به دواء دائهم (4). وتهيج أحزانهم بكاء‌ا على ذنوبهم. ووجع كلومهم (5) وجراحهم. فإذا مروا بآية فيها تشويق ركنوا إليها طمعا وتطلعت أنفسهم إليها شوقا وظنوا أنها نصب أعينهم. وإذا مروا بآية فيها تخويف أصغوا إليها مسامع قلوبهم وظنوا أن زفير جهنم وشهيقها في اصول آذانهم فهم حانون على أوساطهم ومفترشون جباههم وأكفهم وأطراف الاقدام (6) يطلبون إلى الله العظيم في فكاك رقابهم.

___________________
(1) - منقول في النهج مع اختلاف يسير. (2) في بعض النسخ [ متكئون ]. (3) في بعض النسخ [ يتلونه ترسلا ] والترسل في القراء‌ة: الترتل. (4) أى يختارون وفى بعض النسخ [ يستشيرون ] وفى بعض نسخ الحديث [ يستشفعون ]. (5) الكلوم: جمع كلم - بالفتح -: الجرح. (6) هذا ذكر لكيفية ركوعهم وسجودهم في آناء الليل. وقوله: " يطلبون " إلى قوله: " فكاك رقابهم " ذكر لغرضهم من عبادتهم تلك. (*)

[160]

أما النهار فحكماء علماء، أبرار أتقياء، قد براهم الخوف أمثال القداح (1) ينظر إليهم الناظر فيحسبهم مرضى ويقول: قد خولطوا (2) وقد خالط القوم أمر عظيم إذا هم ذكروا عظمة الله تعالى وشدة سلطانه، مع ما يخالطهم من ذكر الموت وأهوال القيامة أفزع ذلك قلوبهم وطاشت له أحلامهم (3) وذهلت له عقولهم فإذا أشفقوا من ذلك (4) بادروا إلى الله بالاعمال الزاكية لا يرضون باليسير ولا يستكثرون له الكثير. هم لانفسهم متهمون ومن أعمالهم مشفقون إذا زكي أحدهم خاف مما يقولون، فيقول: أنا أعلم بنفسي من غيري وربي أعلم بي منى. اللهم لا تؤاخذني بما يقولون واجعلني خيرا مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون إنك علام الغيوب. فمن علامة أحدهم أنك ترى له قوة في دين. وخوفا في لين. وإيمانا في يقين (5). وحرصا في علم. وكيسا في رفق (6) وشفقة في نفقة. وفهما في فقه. وعلما في حلم. وقصدا في غنى (7). وخشوعا في عبادة. وتجملا في فاقة (8) وصبرا في شدة. ورحمة للمجهود وإعطاء في حق. ورفقا في كسب. وطلبا في حلال. ونشاطا في هدى وتحرجا عن طمع (9) وبرا في استقامة واعتصاما عند شهوة. لا يغره ثناء من جهله. ولا يدع إحصاء

___________________
(1) القداح: جمع قدح - بالكسر -: السهم قبل أن براش. وقوله: " براهم " أى نحت الخوف أجسامهم كما ترقق السهام بالنحت. (2) خولط في عقله: اضطرب عقله واختل ومازجه خلل فيه. والامر العظيم الذى خالط عقولهم هو الخوف الشديد من الله. (3) طاش السهم: عدل وجاز. وطاش عقله: خف وذهب. والاحلام: جمع حلم - بالكسر - أى العقل والذهول: الذهاب بدهشة. (4) أشفق من كذا: خاف منه. والمشفقون: خائفون من التقصير فيها. (5) أى إيمان في حد اليقين. (6) الكيس: العقل، الفطنة، جودة القريحة، خلاف الحمق. والشفقة - بالتحريك -: الرحمة. (7) قصدا: اقتصادا. التجمل: التظاهر باليسر. والفاقة: الفقر. (8) في بعض النسخ [ تحملا في فاقة ] بالحاء المهملة. (9) التحرج التجنب والتباعد. (*)

[161]

عمله مستبطئا لنفسه في العمل (1). يعمل الاعمال الصالحة وهو على وجل، يمسي و همه الشكر. يصبح وهمه الذكر، يبيت حذرا ويصبح فرحا. حذرا لما حذر من الغفلة. فرحا بما أصاب من الفضل والرحمة. إن استصعبت عليه نفسه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما هويت (2) فرحه فيما يحذر وقرة عينه فيما لا يزول (3). وزهادته فيما يفنى. يمزج الحلم بالعلم ويمزح العلم بالعمل. تراه بعيدا كسله، دائما نشاطه، قريبا أمله قليلا زلله، خاشعا قلبه، قانعة نفسه، متغيبا جهله (4)، سهلا أمره، حريزا دينه، ميتة شهوته، مكظوما غيظه، صافيا خلقه، لا يحدث الاصدقاء بالذي يؤتمن عليه، ولا يكتم شهادة الاعداء، لا يعمل شيئا رئاء، ولا يتركه استحياء. الخير منه مأمول والشر منه مأمون، إن كان في الغافلين كتب في الذاكرين (5). يعفو عمن ظلمه ويعطي من حرمه ويصل من قطعه، لا يعزب حلمه، ولا يعجز فيما يزينه (6)، بعيدا فحشه، لينا قوله، غائبا مكره، كثيرا معروفه (7)، حسنا فعله، مقبلا خيره، مدبرا شره. فهو في الزلازل وقور (8)، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور. لا يحيف على من يبغض، (9) ولا يأثم فيمن يحب، ولا يدعي ما ليس له، ولا يجحد حقا هو عليه، يعترف بالحق قبل أن يشهد عليه، لا يضيع ما استحفظ (10)، ولا ينابز بالالقاب، لا يبغي ولا يهم به، ولا يضار بالجار، ولا

___________________
(1) أى لا يكون عمله في نظره وإن كثر حد الاحصاء موجبا لان يقيل واستبطا نفسه فيه. (2) " إن استصعبت " أى إذا لم تطاوعه نفسه فيما يشق عليها من الطاعة عاقبها بعدم إعطاء سؤلها وترغب إليها من الشهوة التي فرحت باتيانها. (3) ما لا يزول هو الاخرة وما يفنى هو الدنيا. (4) في الكافى [ منفيا جهله ]. وزاد هنا في النهج [ منزورا أكله ] أى قليلا. وحريزا: حصينا. (5) لانه ذاكرا بقلبه وفى أمالى الصدوق والنهج [ وإن كان في الذاكرين لم يكتب من الغافلين ]. (6) كذا. ولعل المعنى لا يذهب حمله وحزمه. وفى الامالى [ ولا يعجل فيما يريبه ]. (7) في النهج [ غائبا منكره حاضرا معروفه ]. (8) الزلازل: الشدائد والاهوال الموعدة. والوقور: الرزين والذى لا يضطرب. (9) لا يحيف: لا يظلم. " ولا يأثم إلخ " أى ولا يرتكب إثما لارضاء حبيبه. (10) زاد هنا في النهج [ لا ينسى ما ذكر ]. النبز: اللقب. ولا ينابز أى لا يدعو غيره باللقب الذى يكره ويشمئز منه ولا يعاير به. (*)

[162]

يشمت بالمصائب (1) سريع إلى الصواب، مؤد للامانات. بطئ عن المنكرات. يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. لا يدخل في الدنيا بجهل (2). ولا يخرج من الحق. إن صمت لم يغمه الصمت وإن ضحك لم يعل به الصوت. قانع بالذي له (3). لا يجمح به الغيظ (4). ولا يغلبه الهوى. ولا يقهره الشح. ولا يطمع فيما ليس له. يخالط الناس ليعلم. ويصمت ليسلم ويسأل ليفهم. لا ينصت للخير ليعجز به (5). ولا يتكلم به ليتجبر على من سواه، إن بغي عليه صبر حتى يكون الله جل ذكره ينتقم له. نفسه منه في عناء والناس منه في رجاء. أتعب نفسه لآخرته وأراح الناس من نفسه. بعده عمن تباعد عنه بغض ونزاهة (6). و دنوه ممن دنا منه لين ورحمة، ليس تباعده تكبرا ولا عظمة. ولا دنوه خديعة ولا خلابة (7) بل يقتدي بمن كان قبله من أهل الخير. وهو إمام لمن خلفه من أهل البر.  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق