ثم كتب إلى أهل مصر بعد مسيره ما اختصرناه
من عبدالله علي أمير المؤمنين إلى محمد بن أبي بكر وأهل مصر سلام عليكم. أما
بعد فقد وصل إلي كتابك وفهمت ما سألت عنه وأعجبني اهتمامك بما
[177]
لابد لك منه وما لا يصلح المسلمين غيره وظننت أن الذي أخرج ذلك منك نية صالحة و
رأى غير مدخول (1). أما بعد فعليك بتقوى الله في مقامك ومقعدك وسرك وعلانيتك وإذا
أنت قضيت بين الناس فاخفص لهم جناحك ولين لهم جانبك وابسط لهم وجهك وآس بينهم في
اللحظ (2) والنظر حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم ولا يأيس (3) الضعفاء من عدلك
عليهم وأن تسأل المدعي البينة وعلى المدعى عليه اليمين، ومن صالح أخاه على صلح فأجز
صلحه إلا أن يكون صلحا يحرم حلالا أو يحلل حراما. وآثر الفقهاء وأهل الصدق والوفاء
والحياء والورع على أهل الفجور والكذب والغدر. وليكن الصالحون الابرار إخوانك و
الفاجرون الغادرون أعداءك، فان أحب إخواني إلي أكثرهم لله ذكرا وأشدهم منه خوفا.
وأنا أرجو أن تكون منهم إن شاء الله. * وإني اوصيكم بتقوى الله فيما أنتم عنه
مسؤولون وعما أنتم إليه صائرون، فان الله قال في كتابه: " كل نفس بما كسبت رهينة
(4) " وقال: " ويحذركم الله نفسه وإلى الله المصير (5) " وقال: " فوربك لنسألنهم
أجمعين عما كانوا يعملون (6) " فعليكم بتقوى الله
___________________
(1) أى لم يدخل عليه الفساد. (2) وآس: أمره من المؤاساة
أى وشارك. (3) في النهج [ ولا ييأس ]. (*) هذا مما كتبه عليه السلام وأرسله إلى
محمد بن أبى بكر وأمره أن يقرأه على أهل مصر كما رواه المفيد في أماليه ص 152
الطبعة الاولى وابن الشيخ أيضا في أماليه ص 16 مسندا عن أبى إسحاق الهمدانى قال:
لما ولى أمير المؤمنين عليه السلام محمد بن أبى بكر مصر وأعمالها كتب له كتابا أمره
أن يقرأه على أهل مصر ويعمل بما وصاه به فيه فكان الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله أمير المؤمنين على بن أبى طالب إلى أهل مصر ومحمد بن أبى بكر سلام
عليكم إلخ. وما هاهنا مختصر منه كما أشار إليه المصنف رحمه الله. (4) سورة المدثر
آية 43. (5) سورة آل عمران آية 28. (6) سورة الحجر آية 92. (*)
[178]
فإنها تجمع من الخير ما لا يجمع غيرها ويدرك بها من الخير ما لا يدرك بغيرها من
خير الدنيا وخير الآخرة، قال الله: " وقيل للذين اتقوا: ماذا أنزل ربكم؟ قالوا:
خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة ولدار الآخرة خير ولنعم دار المتقين (1) "
اعلموا عباد الله أن المتقين ذهبوا بعاجل الخير وآجله، شاركوا أهل الدنيا في دنياهم
ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، قال الله عزوجل: " قل: من حرم زينة الله التي
أخرج لعباده والطيبات من الرزق الآية (2) ". سكنوا الدنيا بأحسن ما سكنت وأكلوها
بأحسن ما اكلت واعلموا عباد الله أنكم إذا اتقيتم الله (3) وحفظتم نبيكم في أهله
فقد عبدتموه بأفضل عبادته وذكرتموه بأفضل ما ذكر وشكرتموه بأفضل ما شكر وقد أخذتم
بأفضل الصبر والشكر واجتهدتم بأفضل الاجتهاد وإن كان غيركم أطول منكم صلاة وأكثر
منكم صياما وصدقة، إذ كنتم أنتم أوفى لله وأنصح لاولياء الله ومن هو ولي الامر من
آل رسول الله صلى الله عليه وآله. واحذروا عباد الله الموت وقربه وكربه (4) وسكراته
وأعدوا له عدته فانه يأتي بأمر عظيم (5) بخير لا يكون معه شر. وبشر لا يكون معه خير
أبدا. فمن أقرب إلى الجنة من عاملها و (6) أقرب إلى النار من أهلها، فأكثروا ذكر
الموت عندما تنازعكم إليه أنفسكم، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
أكثروا ذكر هاذم اللذات (7) ". واعلموا أن ما بعد الموت لمن لم يغفر الله له ويرحمه
أشد من الموت. واعلم يا محمد أنني وليتك أعظم أجنادي في نفسي أهل مصر وأنت محقوق
(8)
___________________
(1) سورة النحل آية 30. (2) بقية الاية " قل هى للذين
آمنوا في الحيوة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون " سورة
الاعراف آية 32. (3) في بعض النسخ [ إذا لقيتم ]. (4) الكرب - بالفتح -: الحزن
والمشقة ويحتمل أن يكون - بالضم فالفتح - جمع كربة. (5) في بعض نسخ الحديث [ يفجأكم
بامر عظيم ]. (6) كذا وفى النهج [ ومن أقرب إلى النار ]. (7) الهاذم: القاطع. وهاذم
اللذات: كناية عن الموت. (8) أى حقيق. (*)
[179]
أن تخاف على نفسك وأن تحذر فيه على دينك وإن لم تكن إلا ساعة من النهار. فإن
استطعت أن لا تسخط ربك برضى أحد من خلقه فافعل، فإن في الله خلفا من غيره ولا في شئ
خلف من الله. اشدد على الظالم وخذ على يديه (1). ولن لاهل الخير وقربهم منك واجعلهم
بطانتك وإخوانك. ثم انظر صلاتك كيف هي، فإنك إمام. وليس من إمام يصلي بقوم فيكون في
صلاتهم تقصير إلا كان عليه أوزارهم ولا ينتقص من صلاتهم شئ ولا يتممها إلا كان له
مثل أجورهم ولا ينتقص من أجورهم شئ. وانظر الوضوء، فإنه تمام الصلاة ولا صلاة لمن
لا وضوء له. واعلم أن كل شئ من عملك تابع لصلاتك. واعلم أنه من ضيع الصلاة، فإنه
لغير الصلاة من شرايع الاسلام أضيع. وإن استطعتم يا أهل مصر أن يصدق قولكم فعلكم
وسركم علانيتكم ولا تخالف ألسنتكم أفعالكم فافعلوا. وقال رسول الله صلى الله عليه
وآله: " إني لا أخاف على امتي مؤمنا ولا مشركا أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه وأما
المشرك فيخزيه الله ويقمعه بشركه ولكني أخاف عليكم كل منافق حلو اللسان يقول ما
تعرفون ويفعل ما تنكرون " ليس به خفاء. وقد قال النبي صلى الله عليه وآله: " من
سرته حسناته وساءته سيئاته فذلك المؤمن حقا ". وكان يقول صلى الله عليه وآله: "
خصلتان لا يجتمعان في منافق: حسن سمت (2) وفقه في سنة ". واعلم يا محمد بن أبي بكر
أن أفضل الفقه الورع في دين الله والعمل بطاعة الله، أعاننا الله وإياك على شكره
وذكره وأداء حقه والعمل بطاعته إنه سميع قريب. واعلم أن الدنيا دار بلاء وفناء
والآخره دار بقاء وجزاء. فإن استطعت أن تزين ما يبقى على ما يفنى فافعل رزقنا الله
بصر ما بصرنا وفهم ما فهمنا حتى لا نقصر عما أمرنا ولا نتعدى على ما نهانا عنه،
فإنه لابد لك من نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك
___________________
(1) " خذ على يديه " أى امنعه عما يريد فعله. (2)
السمت: الطريق والمحجة. وأيضا يستعمل لهيئة اهل الخير وهى عبارة عن الحالة التى
يكون عليها الانسان من السكينة والوقار وحسن السيرة والطريقة واستقامة المنظر
والهيئة، يقال: فلان حسن السمت أى حسن المذهب في الامور كلها. (*)
[180]
من الآخرة أحوج. فإن عرض لك أمران أحدهما للآخرة والآخر للدنيا فابدأ بأمر
الآخرة. وإن استطعت أن تعظم رغبتك في الخير وتحسن فيه نيتك فافعل، فإن الله يعطي
العبد على قدر نيته إذا أحب الخير وأهله وإن لم يفعله كان إن شاء الله كمن فعله. ثم
إني اوصيك بتقوى الله، ثم بسبع خصال هن جوامع الاسلام: تخشى الله ولا تخشى الناس في
الله فإن خير القول ما صدقه الفعل. ولا تقض في أمر واحد بقضائين فيختلف عليك أمرك
وتزل عن الحق. وأحبب لعامة رعيتك ما تحب لنفسك وأهل بيتك واكره لهم ما تكره لنفسك
وأهل بيتك وألزم الحجة عند الله وأصلح رعيتك (2) وخض الغمرات إلى الحق ولا تخف في
الله لومة لائم وأقم وجهك. وانصح للمرء المسلم إذا استشارك واجعل نفسك اسوة لقريب
المسلمين وبعيدهم. " وأمر بالمعروف وانه عن المنكر. واصبر على ما أصابك إن ذلك من
عزم الامور ". والسلام عليك ورحمة الله وبركاته. *
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق