ومن حكمه صلوات الله عليه وترغيبه وترهيبه ووعظه
أما بعد فإن المكر والخديعة في النار فكونوا من الله على وجل ومن صولته على حذر
(1). إن الله لا يرضى لعباده بعد إعذاره وإنذاره واستطرادا واستدراجا من حيث لا
يعلمون (2) ولهذا يضل سعى العبد حتى ينسى الوفاء بالعهد ويظن أنه قد أحسن صنعا ولا
يزال كذلك في ظن ورجاء وغفلة عما جاءه من النبأ يعقد على نفسه العقد ويهلكها بكل
جهد وهو في مهلة من الله على عهد، يهوي مع الغافلين ويغدو مع المذنبين ويجادل في
طاعة الله المؤمنين ويستحسن تمويه المترفين (3) فهؤلاء قوم شرحت قلوبهم بالشبهة
وتطاولوا على غيرهم بالفرية (4) وحسبوا أنها لله قربة وذلك لانهم عملوا بالهوى
وغيروا كلام الحكماء وحرفوه بجهل وعمى وطلبوا به السمعة و الرياء (5)، بلا سبل
قاصدة ولا أعلام جارية ولا منار معلوم إلى أمدهم وإلى منهل هم واردوه (6) حتى إذا
كشف الله لهم عن ثواب سياستهم (7) واستخرجهم من جلابيب
___________________
(1) الصولة: السطوة والقدرة. (2) الاستدراج: الارتقاء
من درجة إلى درجة. وأيضا: الخدعة. واستدراج الله للعبد انه كلما جدد خطيئة جدد له
نعمة وأنساه الاستغفار فيأخذه قليلا قليلا. قال الله تعالى " سنستدرجهم من حيث لا
يعلمون ". (3) التمويه: التلبيس والممزوج من الحق والباطل. والمترف: المتنعم والذى
يترك و يصنع ما يشاء ولا يمنع. (4) تطاول عليه: اعتدى وترفع عليه. والفرية - بالكسر
-: القذف والكذبة العظيمة التى يتعجب منها. (5) السمعة - بالضم -: ما يسمع، يقال "
فعله رئاء وسمعة " أى ليراه الناس ويسمعوه. (6) المنار - بالفتح -: ما يجعل في
الطريق للاهتداء. والمنهل: المورد وموضع الشرب على الطريق ويسمى أيضا المنزل الذى
في المفاوز على طريق المسافر لان فيه ماء. (7) في بعض النسخ [ عن جزاء معصيتهم ].
(*)
[155]
غفلتهم، استقبلوا مدبرا واستدبروا مقبلا، فلم ينتفعوا بما أدركوا من أمنيتهم
ولا بما نالوا من طلبتهم ولا ما قضوا من وطرهم وصار ذلك عليهم وبالا فصاروا يهربون
مما كانوا يطلبون (1). وإني احذركم هذه المزلة وآمركم بتقوى الله الذي لا ينفع غيره
فلينتفع بنفسه إن كان صادقا على ما يجن ضميره (2) فإنما البصير من سمع وتفكر ونظر
وأبصر، وانتفع بالعبر وسلك جددا واضحا (3) يتجنب فيه الصرعة في المهوى ويتنكب طريق
العمى ولا يعين على فساد نفسه الغواة بتعسف في حق أو تحريف في نطق أو تغيير في صدق
ولا قوة إلا بالله. قولوا ما قيل لكم وسلموا لما روي لكم ولا تكلفوا ما لم تكلفوا
فانما تبعته عليكم فما كسبت أيديكم ولفظت ألسنتكم أو سبقت إليه غايتكم واحذروا
الشبهة فإنها وضعت للفتنة واقصدوا السهولة واعملوا فيما بينكم بالمعروف من القول
والفعل واستعملوا الخضوع واستشعروا الخوف والاستكانة لله. واعملوا فيما بينكم
بالتواضع والتناصف والتباذل (4) وكظم الغيط، فإنها وصية الله. وإياكم والتحاسد
والاحقاد،فإنهما من فعل الجاهلية " ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله
خبير بما تعملون(5)". أيها الناس اعلموا علما يقينا أن الله لم يجعل للعبد وإن اشتد
جهده وعظمت حيلته وكثرت نكايته أكثر مما قدر له في الذكر الحكيم ولم يحل بين المرء
على ضعفه وقلة حيلته وبين ما كتب له في الذكر الحكيم. أيها الناس إنه لن يزداد امرؤ
نقيرا بحذقه (6) ولن ينتقص نقيرا بحمقه، فالعالم بهذا العامل به أعظم الناس راحة في
منفعة.
___________________
(1) الامنية: البغية وما يتمنى. والطلبة - بالكسر -:
الاسم من المطالبة - وبالفتح -: المرة. والوطر - بفتحتين -: الحاجة. (2) في بعض
النسخ [ فلينتفع بتقية إن كان صادقا على ما يحن ضميره ]. (3) الجدد - بفتحتين -:
الارض الصلبة المستوية التى يسهل المشى فيها. ويتنكب: عدل وتجنب. والغواة - بالضم
-: جمع غاوى اسم فاعل من غوى. (4) التناصف: الانصاف. (5) سورة الحشر آية 18. (6)
النقير: النكتة التى في ظهر النواة. والمراد بها هنا الحقير والقليل من الشئ.
والمراد بالذكر الحكيم: القرآن ولا يكون للانسان أن ينال من الكرامة فوق ما نص عليه
القرآن. (*)
[156]
والتارك له أكثر الناس شغلا في مضرة. رب منعم عليه في نفسه مستدرج بالاحسان
إليه. ورب مبتلى عند الناس مصنوع له (1). فأفق أيها المستمتع من سكرك وانتبه من
غفلتك وقصر من عجلتك (2) وتفكر فيما جاء عن الله تبارك وتعالى فيما لا خلف فيه ولا
محيص عنه ولابد منه، ثم ضع فخرك ودع كبرك واحضر ذهنك واذكر قبرك ومنزلك، فإن عليه
ممرك وإليه مصيرك. وكما تدين تدان(3). وكما تزرع تحصد. وكما تصنع يصنع بك. وما قدمت
إليه تقدم عليه غدا لا محالة. فلينفعك النظر فيما وعظت به. وع (4) ما سمعت ووعدت،
فقد اكتنفك بذلك خصلتان ولابد أن تقوم بأحدهما: إما طاعة الله تقوم لها بما سمعت
وإما حجة الله تقوم لها بما علمت. فالحذر الحذر والجد الجد، فانه " لا ينبئك مثل
خبير " (5) إن من عزائم الله في الذكر الحكيم التي لها يرضى ولها يسخط ولها يثيب
وعليها يعاقب أنه ليس بمؤمن وإن حسن قوله وزين وصفه وفضله غيره إذا خرج من الدنيا
فلقى الله بخصلة من هذه الخصال لم يتب منها: الشرك بالله فيما افترض عليه من
عبادته، أو شفاء غيظ بهلاك نفسه أو يقر بعمل فعمل بغيره، أو يستنجح حاجة إلى الناس
(6) بإظهار بدعة في دينه أو سره أن يحمده الناس بما لم يفعل من خير، أو مشى في
الناس بوجهين ولسانين والتجبر و الابهة. واعلم [ واعقل ذلك ف ] إن المثل دليل على
شبهه إن البهائم همها بطونها وإن السباع همها التعدي والظلم وإن النساء همهن زينة
الدنيا والفساد فيها وإن المؤمنين مشفقون مستكينون خائفون.
___________________
(1) أى يغتر المنعم عليه بالنعمة. فربما تكون هذه
النعمة استدراجا له من الله ثم يأخذه من حيث لا يشعر. وكذلك لا يقنط المبتلى عند
الناس فقد تكون البلوى صنعا من الله له ليرفع بها مقامه ومنزلته. وفى بعض النسخ [
فافق أيها المستمع من سكرك ]. (2) أى العجلة في طلب الدنيا. (3) أى كما تجازى
(المبنى للفاعل) تجازى (المبنى للمفعول) بفعلك وبحسب ما عملت. (4) " ع " أمر من وعى
يعى أى احفظ. (5) سورة فاطر آية 15. (6) في بعض النسخ [ حاجته ]. ويستنجح: سأل أن
يقضوها له. والتجبر: التكبر. و الابهة: العظمة والنخوة. (*)
[157]
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق