ومن كلامه عليه السلام في الزهد
إن
علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة تركهم كل خليط وخليل ورفضهم
كل صاحب لا يريد ما يريدون. ألا وإن العامل لثواب الآخرة هو الزاهد في عاجل
زهرة الدنيا، الآخذ للموت أهبته(٢)، الحاث على العمل قبل فناء الاجل ونزول
ما لابد من لقائه. وتقديم الحذر قبل الحين (٣) فإن الله عزوجل يقول: " حتى
إذا جاء أحدهم الموت قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت (٤) "
فلينزلن أحدكم اليوم نفسه في هذه الدنيا كمنزلة المكرور إلى الدنيا، النادم
على ما فرط فيها من العمل الصالح ليوم فاقته. واعلموا عباد اله ! أنه من
خاف البيات تجافى عن الوساد. وامتنع من الرقاد (٥). وأمسك عن بعض الطعام
والشراب من خوف سلطان أهل الدنيا فكيف ويحك يا ابن آدم من خوف بيات سلطان
رب العزة وأخذه الاليم وبياته لاهل المعاصي والذنوب مع طوارق المنايا (٦)
بالليل والنهار فذلك البيات الذي ليس
___________________________________
(١) فيهما [ وحق أهل الذمة أن تقبل منهم ما قبل الله تعالى منهم ولا تظلمهم ما وفوا الله عزوجل بعهده ].
(٢) الاهبة: العدة.
(٣) الحين - بالفتح -: الهلاك.
(٤) المؤمنون آية ١٠٠.
(٥) البيات: الهجوم على عداء ليلا. وتجافى: تنحى.
والوسادة - بالتثليث: المخدة والمتكاء.
(٦) المنايا: جمع المنية اى الموت. وطوارق المنية: دواهى الموت.
(*)
[٢٧٣]
منه
منجى ولا دونه ملتجأ ولا منه مهرب. فخافوا الله أيها المؤمنون من البيات
خوف أهل التقوى، فإن الله يقول: " ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد (١) ".
فاحذروا زهرة الحياة الدنيا وغرورها وشرورها وتذكروا ضرر عاقبة الميل
إليها، فإن زينتها فتنه وحبها خطيئة. واعلم ويحك يا ابن آدم أن قسوة البطنة
(٢) وكظة الملاة وسكر الشبع وغرة الملك مما يثبط ويبطئ عن العمل وينسي
الذكر ويلهي عن اقتراب الاجل حتى كأن المبتلى بحب الدنيا به خبل من سكر
الشراب (٣) وأن العاقل عن الله، الخائف منه، العامل له ليمرن نفسه ويعودها
الجوع حتى ما تشتاق إلى الشبع وكذلك تضمر الخيل لسبق الرهان (٤). فاتقوا
الله عباد الله تقوى مؤمل ثوابه وخائف عقابه فقد لله أنتم أعذر وأندر وشوق
وخوف فلا أنتم إلى ما شوقكم إليه من كريم ثوابه تشتاقون فتعملون ولا أنتم
مما خوفكم به من شديد عقابه وأليم عذابه ترهبون فتنكلون (٥) وقد نبأكم الله
في كتابه أنه: " من يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا كفران لسعيه وإنا له
كاتبون (٦) ". ثم ضرب لكم الامثال في كتابه وصرف الآيات لتحذروا عاجل زهرة
الحياة الدنيا فقال: " إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم (٧)
" فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا، فاتقوا الله واتعظوا بمواعظ
الله. وما أعلم إلا كثيرا منكم قد نهكته (٨) عواقب المعاصي فما حذرها وأضرت
بدينه فما مقتها. أما تسمعون النداء
___________________________________
(١) سورة ابراهيم آية ١٤.
(٢) البطنة - بالكسر -: الامتلاء الشديد من الاكل.
وفى جل النسخ [ نشوة البطنة وفترة الميلة ] والميلة: الرغبة.
والغرة يمكن أن تقرأ العزة.
وكظة الملاة أى ما يعترى الانسان من الامتلاء.
(٣) الخبل - بالتحريك -: إصابة الجنون وفساد في العقل.
(٤) تضمير الفرس أن تعلفه حتى يسمن ثم ترده عن القوت وذلك في اربعين يوما.
(٥) تنكلون: تنكصون وتخافون.
(٦) سورة الانبياء آية ٩٤.
(٧) سورة التغابن آية ١٥.
(٨) نهكه: بالغ في عقوبته.
ونهك العمى فلانا: هزلته وأضنته.
وفى بعض النسخ [ لقد هلكته ].
(*)
[٢٧٤]
من
الله بعيبها وتصغيرها حيث قال: " اعلموا أنما الحيوة الدنيا لعب ولهو
وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الاموال والاولاد كمثل غيث أعجب الكفار نباته
ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله
رضوان وما الحيوة الدنيا إلا متاع الغرور * سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة
عرضها كعرض السماء والارض اعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه
من يشاء والله ذو الفضل العظيم (١) " وقال: " يا أيها الذين آمنوا اتقوا
الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون * ولا
تكونوا كالذين نسوا الله فأنسيهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون(٢) " فاتقوا
الله عباد الله وتفكروا واعملوا لما خلقتم له فإن الله لم يخلقكم عبثا ولم
يترككم سدى، قد عرفكم نفسه وبعث إليكم رسوله وأنزل عليكم كتابه، فيه حلاله
وحرامه وحججه وأمثاله فاتقوا الله فقد احتج عليكم ربكم فقال: " ألم نجعل له
عينين * ولسانا وشفتين * وهديناه النجدين (٣) " فهذه حجة عليكم فاتقوا
الله ما استطعتم فإنه لا قوة إلا بالله ولا تكلان إلا عليه وصلى الله على
محمد [ نبيه ] وآله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق