رسالته عليه السلام في الغنائم ووجوب الخمس
فهمت ما ذكرت أنك اهتممت به من العلم بوجوه مواضع ما لله فيه رضى وكيف امسك سهم ذي القربى منه. وما سألتني من إعلامك ذلك كله فاسمع بقلبك وانظر بعقلك. ثم أعط في جنبك النصف من نفسك (١)، فإنه أسلم لك غدا عند ربك المتقدم أمره ونهيه إليك. وفقنا الله وإياك.
اعلم أن الله ربي وربك ما غاب عن شئ " وما كان ربك نسيا " وما فرط في الكتاب من شئ. وكل شئ فصله تفصيلا. وأنه ليس ما وضح الله تبارك وتعالى من أخذ ماله بأوضح مما أوضح الله من قسمته إياه في سبله، لانه لم يفترض من ذلك شيئا في شئ من القرآن إلا وقد أتبعه بسبله إياه غير مفرق بينه وبينه. يوجبه لمن فرض له مالا يزول عنه من القسم كما يزول ما بقي سواه (٢) عمن سمي له لانه يزول عن الشيخ بكبره والمسكين بغناه وابن السبيل بلحوقه ببلده. ومع توكيد الحج مع ذلك بالامر به تعليما وبالنهي عما ركب ممن منعه تحرجا (٣). فقال الله عزوجل في الصدقات - وكانت أول ما افترض الله سبله -: " إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل (٤) " فالله أعلم نبيه صلى الله عليه وآله موضع الصدقات وأنها ليست لغير هؤلاء، يضعها حيث يشاء منهم على ما يشاء. ويكف الله جل جلاله نبيه وأقرباءه عن صدقات الناس وأوساخهم، فهذا سبيل الصدقات. وأما المغانم (٥)، فإنه لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من قتل قتيلا فله كذا وكذا. ومن أسر أسيرا فله من غنائم القوم كذا وكذا. فإن الله قد وعدني أن
___________________________________
(١) النصف - بالكسر وقد تثلث -: الانصاف والعدل.
(٢) القسم - بالفتح -: مصدر قسم يقسم كضرب يضرب. وما بقى سواه أى سوى القسم.
والمراد ان موارد القسمة كلى لا يزول وثابت دائما بخلاف غيره فانه جزئى يزول بزوال اسمه.
(٣) في الكلام حذف ولعل المراد المحرم المصدد والمحصور. والتحرج: تجنب الحرج أى الاثم.
(٤) سورة التوبة آية ٦٠.
(٥) المغانم: جمع مغنم أى الغنيمة.
(*)
[٣٤٠]
يفتح علي وأنعمني عسكرهم. فلما هزم الله المشركين وجمعت غنائمهم قام رجل من الانصار فقال: يا رسول الله إنك أمرتنا بقتال المشركين وحثثتنا عليه وقلت: من أسر أسيرا فله كذا وكذا من غنائم القوم. ومن قتل قتيلا فله كذا وكذا. إني قتلت قتيلين - لي بذلك البينة - وأسرت أسيرا فأعطنا ما أوجبت على نفسك يا رسول الله، ثم جلس.
فقام سعد بن عبادة (١) فقال: يا رسول الله ما منعنا أن نصيب مثل ما أصابوا جبن عن العدو ولا زهادة في الآخرة والمغنم (٢). ولكنا تخوفنا أن بعد مكاننا منك فيميل إليك من جند المشركين، أو يصيبوا منك ضيعة (٣) فيميلوا إليك فيصيبوك بمصيبة. وإنك إن تعط هؤلاء القوم ما طلبوا يرجع سائر المسلمين ليس لهم من الغنيمة شئ، ثم جلس.
فقام الانصاري فقال مثل مقالته الاولى، ثم جلس.
يقول ذلك كل واحد منهما ثلاث مرات: فصد النبي صلى الله عليه وآله بوجهه فأنزل الله عزوجل " يسألونك عن الانفال (٤) ". والانفال اسم جامع لما أصابوا يومئذ مثل قوله: " ما أفاء الله على
___________________________________
(١) كان سعد بن عبادة أنصاريا خزرجيا من الصحابة، أحد النقباء في ليلة العقبة، صاحب راية الانصار يوم بدر وأمير المؤمنين عليه السلام صاحب لواء المهاجرين، وكان سعد سيدا وجيها جوادا له سيادة ورئاسة يعترف له قومه بها. وهو الذى تخلف عن بيعة أبي بكر وخرج من المدينة ولم يرجع اليها إلى أن قتل بحوران من أرض الشام في خلافة أبى بكر وقيل في خلافة عمر. وابنه قيس بن سعد كان من أصحاب أمير المؤمنين وابنه أبى محمد الحسن عليهما السلام. وأراد معاوية أن يخدعه ليخذل الحسن عليه السلام فلم يمكن له ويئس منه.
(٢) " جبن " فاعل لقوله: " منعنا " أى ما منعنا جبن عن العدو ولا زهادة.
(٣) الضيعة - بالكسر -: التلف والهلاك. وأيضا: الفقد. - وبالفتح -: المرة من ضاع.
(٤) سورة الانفال آية ١. والانفال: جمع نفل - بالتحريك -: الزيادة والغنيمة من نفل الرجل - كنصر -: أعطاه نافلة من المعروف مما لا يريد ثوابه منه. والانفال: ما زاده الله هذه الامة في الحلال. وأفاء الله: جعله فيئا: والفيئ: الغنيمة والظل. وأصله بمعنى الرجوع فكان في معنى الغنيمة والظل معنى الرجوع أيضا. وقيل: المال الماخوذ من الكفار ينقسم إلى ما يحصل من غير قتال وايجاف خيل ولا ركاب وإلى ما حصل بذلك ويسمى الاول فيئا والثانى غنيمة.
(*)
[٣٤١]
رسوله (١) " ومثل قوله: " وما غنمتم من شئ (٢) " ثم قال: " قل الانفال لله والرسول (٣) " فاختلجها الله (٤) من أيديهم فجعلها لله ولرسوله.
ثم قال: " فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين (٥) " فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وآله المدينة أنزل الله عليه: " واعلمو أن ما غنمتم من شئ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان (٦) ".
فأما قوله: " لله " فكما يقول الانسان: هو لله ولك ولا يقسم لله منه شئ.
فخمس رسول الله صلى الله عليه وآله الغنيمة التي قبض بخمسة أسهم. فقبض سهم الله لنفسه يحيي به ذكره ويورث بعده. وسهما لقرابته من بني عبدالمطلب، فأنفذ سهما لايتام المسلمين وسهما لمساكينهم. وسهما لابن السبيل من المسلمين في غير تجارة، فهذا يوم بدر، وهذا سبيل الغنائم التي اخذت بالسيف. وأما ما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب (٧). فإن كان المهاجرون حين قدموا المدينة أعطتهم الانصار نصف دورهم ونصف أموالهم. والمهاجرون يومئذ نحو مائة رجل.
فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وآله على بني قريظة والنضير (٨) وقبض أموالهم قال النبي صلى الله عليه وآله
___________________________________
(١) سورة الحشر آية ٦ و ٧.
(٢) سورة الانفال آية ٤١. كذا " واعلموا أنما غنمتم من شئ... الاية "
(٣) اختلجه: انتزعه واجتذبه.
(٤) سورة الانفال آية ١.
(٥) سورة الانفال آية ١.
(٦) سورة الانفال آية ٤١.
(٧) الايجاف: السير الشديد. والخيل: جماعة الافراس وقيل: لا واحد له من لفظه كالقوم والرهط والجمع خيول وتستعمل مجازا للفرسان. والركاب - ككتاب -: الابل التى تحمل القوم واحدتها راحلة فلا واحد لها من لفظها وجمعها ركب - ككتب -.
(٨) بنو قريظة - كجهينة -. وبنو النظير - كشرير -: بطنان من اليهود بالمدينة كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله عهد وميثاق فنقضوا.
أما بنى قريظة فنقضوا عهدهم وميثاقهم في غزوة الخندق السنة الخامسة من الهجرة فكانوا من الاحزاب التى اهتموا على المسلمين فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وآله من هذه الغزوة مضى مع أصحابه إليهم وحاصرهم ليالى وأياما " بقية الحاشية في الصفحة الاتية " (*)
[٣٤٢]
للانصار: إن شئتم أخرجتم المهاجرين من دوركم وأموالكم وقسمت لهم هذه الاموال دونكم. وإن شئتم تركتم أموالكم ودوركم وقسمت لكم معهم.
قالت الانصار: بل اقسم لهم دوننا واتركهم معنا في دورنا وأموالنا.
فأنزل الله تبارك وتعالى: " ما أفاء الله على رسوله منهم - يعني يهود قريظة - فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب (١) " لانهم كانوا معهم بالمدينة أقرب من أن يوجف عليهم بخيل وركاب.
ثم قال: " للفقراء المهاجرين الذين اخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون (٢) ". فجعلها الله لمن هاجر من قريش مع النبي صلى الله عليه وآله وصدق. وأخرج أيضا عنهم المهاجرين مع رسول الله صلى الله عليه وآله من العرب
___________________________________
" بقية الحاشية من الصفحة الماضية " حتى نزلوا على حكم رجل من الاوس وهو سعد بن معاذ لان الاوس من حلفائهم. فحكم سعد فيهم بالقتل والسبى. وأنزل الله تعالى فيهم " وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا * واورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطؤها وكان الله على كل شئ قديرا " سورة الاحزاب آية ٢٦.
وأما بنو النضير فان النبى صلى الله عليه وآله لما أتاهم يستعينهم في دية الرجلين اللذين من بنى عامر - وكان بنو عامر في جواره صلى الله عليه وآله - قتلهما عمرو بن امية الضمرى في منصرفه من بئر معونة هموا بطرح حجر عليه من فوق الحصن فعصمه الله واطلع منهم على خيانة فرجع النبى صلى الله عليه وآله إلى المدينة وبعث إليهم محمد بن مسلمة أن اخرجوا من ديارهم وارتحلوا منها فلم يقبلوا منه فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وآله ليالى وأياما حتى قبلوا ذلك منه فصالحهم على الاجلاء وعلى أن لهم ما أقلت الابل من بعض أموالهم وللنبى صلى الله عليه وآله ما بقى فاجلاهم النبى صلى الله عليه وآله عن ديارهم وولى إخراجهم محمد بن مسلمة فعبروا من سوق المدينة وتفرقوا في البلاد فانزل فيهم آيات في سورة الحشر فكان أموالهم وعقارهم فيئا لرسول الله صلى الله عليه وآله خاصة له، خصه الله تعالى بها ولم تكن تحصل بالقتال والغلبة ولكن سلطه الله عليهم وعلى ما في أيديهم فالامر فيه مفوض إليه يضعه حيث يشاء ولا يقسمه قسمة التى قوتل عليها واخذت عنوة قهرا فقسمها بين المهاجرين ولم يعط الانصار إلا اثنين منهم - لفقرهما -: سهل بن حنيف وسماك بن أبى خراشة. قيل: وبقى منها صدقته التى في ايدى بنى فاطمة عليها السلام.
وهذه الوقعة كانت في سنة الرابع من الهجرة النبوية.
(١) سورة الحشر آية ٦.
(٢) سورة الحشر آية ٨.
(*)
[٣٤٣]
لقوله: " الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم " لان قريشا كانت تأخذ ديار من هاجر منها وأموالهم ولم تكن العرب تفعل ذلك بمن هاجر منها، ثم أثنى على المهاجرين الذين جعل لهم الخمس وبرأهم من النفاق بتصديقهم إياه حين قال: " فاولئك هم الصادقون " لا الكاذبون، ثم أثنى على الانصار وذكر ما صنعوا وحبهم للمهاجرين وإيثارهم إياهم وانهم لم يجدوا في أنفسهم حاجة - يقول: حزازة (١) - مما اوتوا. يعني المهاجرين دونهم فأحسن الثناء عليهم فقال: " والذين تبوء والدار والايمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما اوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (٢) وقد كان رجال اتبعوا النبي صلى الله عليه وآله قد وترهم المسلمون (٣) فيما أخذوا من أموالهم، فكانت قلوبهم قد امتلات عليهم، فلما حسن إسلامهم استغفروا لانفسهم مما كانوا عليه من الشرك. وسألوا الله أن يذهب بما في قلوبهم من الغل لمن سبقهم إلى الايمان. واستغفروا لهم حتى يحلل ما في قلوبهم وصاروا إخوانا لهم. فأثنى الله على الذين قالوا ذلك خاصة فقال: " والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالايمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رؤف رحيم (٤) "، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وآله المهاجرين عامة من قريش على قدر حاجتهم فيما يرى، لانها لم تخمس فتقسم بالسوية.
ولم يعط أحدا منهم شيئا إلا المهاجرين من قريش غير رجلين من أنصار يقال لاحدهما: سهل بن حنيف (٥)
___________________________________
(١) الحزازة - بالفتح: التعسف في الكلام. وأيضا: وجع في القلب من غيظ ونحوه.
(٢) سورة الحشر آية ٩. والخصاصة: الفقر والحاجة.
(٣) وترهم: قطعهم - وأبعدهم. ووتر القوم: جعلهم شفعهم وترا أى أفردهم.
(٤) سورة الحشر آية ١٠.
(٥) هو سهل بن حنيف بن واهب الانصارى الاوسى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وشهد بدرا والمشاهد كلها. وكان في بدء الاسلام عام الاول من الهجرة يكسر أصنام قومه ليلا فيحملها إلى امرأة مسلمة من الانصار لا زوج لها يقول لها: خذى فاحتطبى بهذا وكان أمير الؤمنين عليه السلام يذكر ذلك عنه بعد موته متعجبا وروى انه شهد العقبة وكان من النقباء الذين اختارهم رسول الله صلى الله عليه وآله الاثنى عشر في ليلة العقبة.
وكان هو ممن ثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله " بقية الحاشية في الصفحة الاتية " (*)
[٣٤٤]
وللاخر سمال بن خرشة - أبودجانة (١) - فإنه أعطاهما لشدة حاجة كانت بهما من
___________________________________
" بقية الحاشية من الصفحة الماضية يوم أحد لما انهزم الناس وبايعه على الموت وجعل ينضح يومئذ بالنبل مع رسول الله صلى الله عليه وآله فقال رسول الله صلى الله عليه وآله نبلوا سهلا فانه سهل، وكان من أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام الذين رجعوا إليه فصحبه حتى بويع له بالخلافة واستخلفه على المدينة لما خرج عليه السلام إلى البصرة وكان واليه. ثم ولاه على فارس فأخرجه اهل فارس فوجه عليه السلام زيادا فأرضوه وصالحوه وأدوا الخراج. ثم شهد سهل مع على عليه السلام صفين وكان هو وأخوه عثمان ابن حنيف من شرطة الخميس وتوفى بالكوفة بعد مرجعه معه من صفين وكان من أحب الناس إليه وجزع من موته فقال عليه السلام: " لو أحبنى جبل لتهافت " وكفنه في برد أحمر حبرى وصلى عليه خمس صلوات فكبر خمسا وعشرين تكبيرة: بأن صلى عليه وكبر خمس تكبيرات ثم مشى ثم وضعه فكبر خمس تكبيرات آخر يصنع ذلك إلى انتهى إلى قبره وقال عليه السلام: " لو كبرت عليه سبعين مره لكان أهلا ".
(١) أبودجانة - بالضم والتخفيف - سماك بن خرشة بن لوذان الانصارى الخزرجى من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله، شهد بدرا واحدا وجميع المشاهد وكان بطلا شجاعا وله عصابة حمراء يعلم بها في الحرب وقاتل يوم أحد حتى أمعن في الناس وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله أخذ سيفا بيده وقال صلى الله عليه وآله: من يأخذ هذا السيف بحقه فقام إليه اناس فأمسكه عنهم فلم يعطهم إياه فقام اليه أبودجانة فقال: ما حقه يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وآله: أن تضرب به في العدو حتى ينحنى (أو يثخن) فقال: أنا آخذ بحقه فأعطاه إياه ثم أهوى إلى ساق خفه فأخرج منها عصابة حمراء وعصب بها رأسه ويرتجز. وكان ابودجانة رجلا شجاعا يختال عند الحرب وجعل يتبختر بين الصفين. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله حين رآه يتبختر: " انها لمشية يبغضها الله الا في مثل هذا الموطن " وقاتل به فجعل لا يلقى احدا من المشركين الا قتله حتى حمل على مفرق راس هند بنت عتبة ثم عدل السيف عنها فقال: رأيت إنسانا يحمش الناس حمشا شديدا فصمدت اليه فلما حملت عليه السيف ولول فاذا امرأة فأكرمت سيف رسول الله صلى الله عليه وآله ان أضرب به امرأة وكان أبودجانة رضى الله عنه من الشجعان المشهورين بالشجاعة وقد ظهر شجاعته أيضا في وقعة اليمامة في أواخر السنة الحادية عشر وذلك: ان مسيلمة بن حبيب الحنفى - المعروف بمسيلمة الكذاب - وقومه لما دخلوا الحديقة واغلقوا عليهم بابها وتحصنوا فيها قال أبودجانة للمسلمين: اجعلونى في جنة ثم ارفعونى بالرماح وألقونى عليهم في الحديقة. فاحتملوه حتى اشرف على الجدار فوثب عليهم كالاسد فجعل يقاتلهم ثم احتملوا بعد ذلك البراء بن مالك فافتحها عليهم وقاتل على الباب وفتحه فدخلها المسلمون فاقتتلوا اشد القتال حتى قتل مسيلمة وشاك في قتله ابودجانة ووحشى قاتل حمزة بن عبدالمطلب. ولم يلق المسلمون حربا مثلها قط واستشهد في هذه الوقعة كثير من مشاهير المهاجرين والانصار وفضلاء الصحابة. وقيل: قتل فيها أيضا ابودجانة بعد ما ابلى فيها بلاء عظيما.
وقيل: بل عاش بعد ذلك وشهد صفين مع امير المؤمنين عليه السلام. (*)
[٣٤٥]
حقه. وأمسك النبي صلى الله عليه وآله من أموال بني قريظة والنضير مالم يوجب عليه خيل ولا ركاب سبع حوائط لنفسه. لانه لم يوجب على فدك (١) خيل أيضا ولا ركاب. وأما خيبر (٢) فإنها كانت مسيرة ثلاثة أيام من المدينة وهي أموال اليهود
___________________________________
(١) فدك - بالتحريك، منصر وغير منصرف -: قرية من قرى اليهود قرب خيبر بينهما دون مرحلة وهى مما أفاء الله على رسوله لان أهل فدك لما سمعوا ان المسلمين قد صنعوا ما صنعوا بأهل خيبر بعثوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله يسألونه أن يسيرهم أيضا ويتركوا له الاموال ففعل وذلك في سنة السابع من الهجرة بعد فتح خيبر.
فكانت لرسول الله صلى الله عليه وآله ولم يكن معها أحد فزال عنها حكم الفئ ولزمها حكم الانفال فلما نزلت " وآت ذا القربى حقه " اعطاها رسول الله صلى الله عليه وآله فاطمة عليها السلام وكانت في يدها إلى أن توفى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه فاخذها أبوبكر من فاطمة عليها السلام فلم تزل كذلك حتى صارت الخلافة إلى عمر بن عبدالعزيز فردها إلى محمد بن على عليهما السلام فلم تزل في أيدى اولاد فاطمة واستغنوا في تلك السنين وحسنت أحوالهم فلما مات عمر بن عبدالعزيز انتزعها يزيد بن عبدالملك ثم دفعها السفاح إلى الحسن بن الحسن بن على بن أبى طالب عليهما السلام ثم أخذها المنصور ثم أعاد المهدى ثم قبضها الهادى ثم ردها المأمون وكانت في أيديهم في زمن المأمون والمعتصم والواثق ثم اخذها المتوكل. وردها المعتضد. وحازها المكتفى. وقيل: ان المقتدر رد إليهم.
(٢) خيبر: اسم موضع مشتملة على حصون ومزارع ونخل كثير على مشى ثلاثة أيام من المدينة إلى جهة الشام على يسار الماشى. وقيل: هى بلسان اليهود الحصن وسكانها اليهود وأشهر حصونها سبعة: ناعم. قموص - كصبور -. كتيبة - كسفينة -. نطاة - كقناة - شق. وطيح - كأمير -. سلالم - بالضم -. فتحها رسول الله صلى الله عليه وآله في سنة سبع بيد على بن أبى طالب عليه السلام واستخلف على المدينة سباع بن عرفطة الانصارى. وأمر أن لا يخرج إلا من رغب في الجهاد. وسار صلى الله عليه وآله حتى أتى خيبر واستقبل عمال خيبر غادين قد خرجوا بمساحيهم ومكاتلهم فلما رأوه قالوا: والله محمد والخميس معه فولوا هاربين إلى حصونهم. قيل: فأدخلوا أموالهم وعيالهم في حصن كتيبة. وأدخلوا ذخائرهم في حصن ناعم وجمع المقاتلة وأهل الحرب في حصن نطاة. فلما تيقن رسول الله صلى الله عليه وآله أن اليهود تحارب وعظ أصحابه ونصحهم وحرضهم على الجهاد ورغبهم في الثواب وبشرهم بأن من صبر فله الظفر والغنيمة وحاصرهم النبى صلى الله عليه وآله ليلالى وأياما. وكانت اليهود في حصونهم ترمى بالسهام إلى عسكر المسلمين وكان النبى صلى الله عليه وآله " بقية الحاشية في الصفحة الاتية " (*)
[٣٤٦]
ولكنه أوجب عليها خيل وركاب وكانت فيها حرب. فقسمها عل قسمة بدر، فقال الله عزوجل: " ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كيلا يكون دولة بين الاغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا (١) " فهذا سبيل ما أفاء الله على رسوله مما أوجف عليه خيل وركاب.
___________________________________
" بقية الحاشية من الصفحة الماضية " يعطى الراية كل يوم واحدا من أصحابه ويبعثه إلى المحاربة ولم يفتح الحصن فرجع من غير فتح. ثم قال النبى صلى الله عليه وآله ليلة: أما والله لاعطين الراية غدا رجلا كرارا غير فرار ويحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله يفتح الله على يديه. وبات الناس يحرصون ليلتهم ويتحدثون أيهم يعطاها غدا. فلما أصبحوا غدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وآله واجتمعوا على بابه. ثم خرج النبى صلى الله عليه وآله من خيمته وقال: أين على بن أبى طالب؟ فقيل: هو يشتكى عينيه.
فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: أرسلوا إليه من يأتى به.
فذهب اليه مسلمة بن الاكوع وأخذ بيده يقوده حتى أتى به إلى النبى صلى الله عليه وآله وهو أرمد وكان قد عصب عينيه بشقة برد قطرى.
ووضع صلى الله عليه وآله رأسه في حجره وبصق في كفه ومسح عينه فبرئ منه فألبسه النبى صلى الله عليه وآله درعه الحديد وشد ذا الفقار سيفه في وسطه وأعطاه الراية ووجهه إلى الحصن وقال: امض حتى يفتح الله عليك فما رجع حتى فتح الله على يديه. وقتل يومئذ ثمانية من رؤساء اليهود منهم مرحب اليهودى الذى لم يكن في أهل خيبر أشجع منه وفر الباقون إلى الحصن.
على حمى الاسلام من قتل مرحب * فداة اعتلاء بالحسام المضخم وقلع على عليه السلام باب خيبر بنفسه فتحرس به عن نفسه فجعله على الخندق جسرا حتى دخل المسلمون الحصن وحملوا عليهم فظفروا بالحصن وأغنم الله المسلمين مالا كثيرا منه كنز عند كنانة ابن ربيع ابن أبى الحقيق أحد رؤساء يهود خيبر مملوة من الذهب وعقود من الدر والجوهر وأمر رسول الله صلى الله عليه وآله بجمع الاموال وأصاب رسول الله صلى الله عليه وآله سبايا منهم صفية بنت حيى بن اخطب اليهودى زوجة كنانة بن ربيع ولما جرت المقاسم في أموال خيبر أشبع فيها المسلمون ووجدوا بها مرفقا لم يكونوا وجدوه قبل حتى قال عبدالله بن عمر: " ما شبعنا حتى فتحنا خيبر " ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وآله يهود خيبر في أموالهم يعملون فيها للمسلمين على النصف مما كان يخرج منها، فكان خيبر فيئا للمسلمين بخلاف فدك فانها خالصة لرسول الله صلى الله عليه وآله لانهم لم يجعلوا عليها بخيل ولا ركاب.
(١) سورة الحشر آية ٧.
(*)
[٣٤٧]
وقد قال علي بن أبي طالب صلوات الله عليه: ما زلنا نقبض سهمنا بهذه الآية التي أولها تعليم وآخرها تحرج (١) حتى جاء خمس السوس وجندي سابور (٢) إلى عمر وأنا والمسلمون والعباس عنده، فقال عمر لنا: إنه قد تتابعت لكم من الخمس أموال فقبضتموها حتى لا حاجة بكم اليوم وبالمسلمين حاجة وخلل (٣)، فأسلفونا حقكم من هذا المال حتى يأتي الله بقضائه من أول شئ يأتي المسلمين. فكففت عنه لاني لم آمن حين جعله سلفا لو الححنا عليه فيه أن يقول في خمسنا مثل قوله في أعظم منه أعني ميراث نبينا صلى الله عليه وآله حين الححنا عليه فيه.
فقال له العباس: لا تغمز (٤) في الذي لنا يا عمر، فإن الله قد أثبته لنا بأثبت مما أثبت به المواريث بيننا. فقال عمر: وأنتم أحق من أرفق المسلمين. وشفعني، فقبضه عمر.
ثم قال: لا والله ما آتيهم ما يقبضنا (٥) حتى لحق بالله، ثم ما قدرنا عليه بعده.
ثم قال علي عليه السلام: إن الله حرم على رسول الله صلى الله عليه وآله الصدقة فعوضه منها سهما من الخمس. وحرمها على أهل بيته خاصة دون قومهم.
___________________________________
(١) في بعض النسخ [ تخرج ].
(٢) كانتا مدينتين في نواحى فارس فتحهما المسلمون في خلافة عمر سنة ١٧ وسببها: ان المسلمين لما فتح رامهرمز وتستر، وأسر الهرمزان ساروا مع قائدهم ابى سبرة بن أبى رهم في أثر المنهزمين إلى السوس وكان بها شهريار أخو الهرمزان فأحاط المسلمون بها وناوشوهم القتال مرات وحاصروهم ثم اقتحموا الباب فدخلوا عليهم فألقى المشركون بأيديهم ونادوا: الصلح الصلح.
فأجابهم إلى ذلك المسلمون بعدما دخلوه عنوة واقتسموا ما أصابوا. ولما فرغ أبوسبرة من السوس خرج في جنده حتى نزل على جندى سابور . وزر بن عبدالله بن كليب فحاصرهم فاقاموا عليها يقاتلونهم فرمى رجل من عسكر المسلمين إليهم بالامان فلم يفجأ المسلمون إلا وقد فتحت أبوابها وأخرجوا أسواقهم فسألهم المسلمون عن ذلك.
فقالوا: رميتم لنا بالامان فقبلناه وأقررنا الجزية.
فقال المسلمون: ما فعلنا وسألوا بعضهم من فعل ذلك فاذا هو عبد يدعى مكثفا كان أصله منها فعل هذا فقال أهلها: قد رمى إلينا منكم بالامان ولا نعرف العبد من الحر وقد قبلنا وما بدلنا فكتبوا بذلك إلى عمر فأجاز أمانهم فأمنوهم وانصرفوا عنهم.
(٣) الخلل - بالتحريك -: الفساد والوهن. والاولى هنا ان يكون جمع خلة أى الحاجة.
(٤) في بعض النسخ [ لا يعتمر ].
(٥) في بعض النسخ [ يقضينا ].
(*)
[٣٤٨]
وأسهم لصغيرهم وكبيرهم وذكرهم وأنثاهم وفقيرهم وشاهدهم وغائبهم ولانهم إنما اعطوا سهمهم لانهم قرابة نبيهم والتي لا تزول عنهم. الحمد لله الذي جعله منا وجعلنا منه.
فلم يعط رسول الله صلى الله عليه وآله أحدا من الخمس غيرنا وغير حلفائنا وموالينا، لانهم منا وأعطى من سهمه ناسا لحرم كانت بينه وبينهم معونة في الذي كان بينهم. فقد أعلمتك ما أوضح الله من سبيل هذه الانفال الاربعة وما وعد من أمره فيهم ونوره بشفاء من البيان وضياء من البرهان، جاء به الوحي المنزل وعمل به النبي المرسل صلى الله عليه وآله. فمن حرف كلام الله أوبد له بعدما سمعه وعقله فإنما إثمه عليه والله حجيجه فيه (١).
والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
* (إحتجاجه (ع) على الصوفية لما دخلوا عليه فيما ينهون عنه من طلب الرزق) *
دخل سفيان الثوري على أبي عبدالله عليه السلام فرأى عليه ثيابا بيضا كأنها غرقئ البياض (٢) فقال له: إن هذا ليس من لباسك.
فقال عليه السلام له: اسمع مني وع ما أقول لك فإنه خير لك عاجلا وآجلا ان كنت أنت مت على السنة والحق ولم تمت على بدعة. اخبرك أن رسول الله صلى الله عليه وآله كان في زمان مقفر جشب (٣) فإذا أقبلت الدنيا فأحق أهلها بها أبرارها لا فجارها. ومؤمنوها لا منافقوها. ومسلموها لا كفارها. فما أنكرت يا ثوري، فو الله - إني لمع ما ترى - ما أتى علي مذ عقلت صباح ولا مساء ولله في مالي حق أمرني أن أضعه موضعا إلا وضعته.
فقال: ثم أتاه قوم ممن يظهر التزهد (٤) ويدعون الناس أن يكونوا معهم على
___________________________________
(١) الحجيج: الغالب باظهار الحجه.
(٢) رواه الكلينى (ره) في الكافى ج ١ ص ٣٤٥ من الفروع وفيه [ غرقئ البيض ] والغرقئ - كزبرج -: القشر الرقيقة الملتصقة ببياض البيض وفى بعض النسخ من الكتاب [ غرقى البياض ].
(٣) القفر: خلو الارض من الماء والكلاء. والجشب - بفتح فسكون أو كسر - من الطعام: الغليظ الخشن. وفى الكافى [ مقفر جدب ] والجدب: انقطاع المطر ويبس الارض.
(٤) في الكافى [ يظهرون الزهد ].
(*)
[٣٤٩]
مثل الذي هم عليه من التقشف (١) فقالوا: إن صاحبنا حصر عن كلامك (٢) ولم تحضره حجة.
فقال عليه السلام لهم: هاتوا حججكم فقالوا: إن حججنا من كتاب الله.
قال عليه السلام لهم: فأدلوا بها (٣) فإنها أحق ما اتبع وعمل به.
فقالوا: يقول الله تبارك وتعالى مخبرا عن قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله: " ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (٤)، فمدح فعلهم.
وقال في موضع آخر: " ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا " (٥) فنحن نكتفي بهذا.
فقال رجل من الجلساء: إنا ما رأيناكم تزهدون في الاطعمة الطيبة ومع ذلك تأمرون الناس بالخروج من أموالهم حتى تتمتعوا أنتم بها.
فقال أبوعبدالله عليه السلام: دعوا عنكم ما لا ينتفع به، أخبروني أيها النفر ألكم علم بناسخ القرآن من منسوخه. ومحكمه من متشابهه، الذي في مثله ضل من ضل وهلك من هلك من هذه الامة؟ فقالوا له: بعضه، فأما كله فلا.
فقال عليه السلام لهم: من ههنا اوتيتم (٦).
وكذلك أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وأما ما ذكرتم من إخبار الله إيانا في كتابه عن القوم الذين أخبر عنهم لحسن فعالهم فقد كان مباحا جائزا ولم يكونوا نهوا عنه وثوابهم منه على الله وذلك أن الله جل وتقدس أمر بخلاف ما عملوا به فصار أمره ناسخا لفعلهم.
وكان نهى تبارك وتعالى رحمة لمؤمنين (٧) ونظرا لكيلا يضروا بأنفسهم وعيالاتهم، منهم الضعفة الصغار والولدان والشيخ الفان والعجوز الكبيرة الذين لا يصبرون على الجوع، فإن تصدقت برغيفي ولا رغيف لي
___________________________________
(١) التقشف: ترك النظافة. والترفه، ضد التنعم.
(٢) أى ضاق صدره من كلامك واستحيا. والحصر: العى في المنطق والعجز عن الكلام.
(٣) الادلاء بالشئ: احضاره.
(٤) سورة الحشر آية ٩.
(٥) سورة الانسان آية ٨.
(٦) اشار إلى نفسه الشريف عليه السلام يعنى أن علمكم ببعض ما في القرآن من الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه إن صدقتهم اوتيتم أيضا من اهل بيت النبوة. وفى الكافى [ فمن هنا أتيتم ] وقال الفيض رحمه الله في بيان: " أتيتم " على البناء للمفعول أى دخل عليكم البلاء وأصابكم ما أصابكم.
(٧) في الكافى [ رحمة منه للمؤمنين ].
(*)
[٣٥٠]
غيره ضاعوا وهلكوا جوعا فمن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله: خمس تمرات أو خمس قرص أو دنانير، أو دراهم يملكها الانسان وهو يريد أن يمضيها فأفضلها ما أنفقه الانسان على والديه. ثم الثانية على نفسه وعياله، ثم الثالثة على القرابة وإخوانه المؤمنين (١) ثم الرابعة على جيرانه الفقراء، ثم الخامسة في سبيل الله وهو أخسها أجرا.
وقال النبي صلى الله عليه وآله للانصاري - حيث أعتق عند موته خمسة أو ستة من الرقيق (٢) ولم يكن يملك غيرهم وله أولاد صغار -: " لو أعلمتموني أمره ما تركتكم تدفنونه مع المسلمين. ترك صبية صغارا (٣) يتكففون الناس.
ثم قال: حدثني أبي أن النبي صلى الله عليه وآله قال: إبدأ بمن تعول الادنى فالادنى. ثم هذا ما نطق به الكتاب ردا لقولكم ونهيا عنه مفروض من الله العزيز الحكيم قال: " الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (٤) " أفلا ترون أن الله تبارك وتعالى عير ما أراكم تدعون إليه والمسرفين (٥) وفي غير آية من كتاب الله يقول: " إنه لا يحب المسرفين (٦) فنهاهم عن الاسراف ونهاهم عن التقتير لكن أمر بين أمرين لا يعطي جميع ما عنده ثم يدعو الله أن يرزقه فلا يستجيب له للحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وآله: " أن أصنافا من امتي لا يستجاب لهم دعاؤهم: رجل يدعو على والديه. ورجل يدعو على غيرم (٧) ذهب له بمال ولم يشهد عليه. ورجل يدعو على امرأته وقد جعل الله
___________________________________
(١) في الكافى [ على قرابته الفقراء ].
(٢) الرقيق: المملوك للواحد والجمع وقد يجمع على أرقاء أيضا.
(٣) الصبية - بالتثليث -: جمع صبى.
وتكفف الرجل: سأل كفا من الطعام أو ما يكف به الجوع: أو أخذ الشئ ببطن كفه.
(٤) سورة الفرقان آية ٦٧.
والقتر: القليل من العيش يقال: فلان قتر على عياله: ضيق عليهم في النفقة والمقتر: الفقير المقل.
(٥) في الكافى [ أفلا ترون ان الله غير ما اراكم تدعون الناس اليه من الاثرة على أنفسهم وسمى من فعل ما تدعون الناس اليه مسرفا ].
(٦) سورة الانعام آية ١٤١ والاعراف ٣١.
(٧) الغريم: المديون. وفى الكافى [ ذهب له بمال فلم يكتب عليه ولم يشهد عليه ].
(*)
[٣٥١]
تخلية سبيلها بيده.
ورجل يقعد في البيت ويقول: يا رب ارزقني ولا يخرج يطلب الرزق فيقول الله عزوجل: عبدي ! أو لم أجعل لك السبيل إلى الطلب والضرب في الارض بجوارح صحيحة فتكون قد أعذرت فيما بيني وبينك في الطلب لاتباع أمرى ولكي لا تكون كلا على أهلك فإن شئت رزقتك وإن شئت قترت عليك وأنت معذور عندي (١).
ورجل رزقه الله مالا كثيرا فأنفقه ثم أقبل يدعو يا رب ارزقني، فيقول الله: ألم أرزقك رزقا واسعا، أفلا اقتصدت (٢) فيه كما أمرتك ولم تسرف وقد نهيتك.
ورجل يدعو في قطيعة رحم ".
ثم علم الله نبيه صلى الله عليه وآله كيف ينفق وذلك أنه كانت عنده صلى الله عليه وآله أوقية من ذهب (٣) فكره أن تبيت عند شئ فتصدق وأصبح ليس عنده شئ. وجاءه من يسأله فلم يكن عنده ما يعطيه فلامه السائل واغتم هو صلى الله عليه وآله حيث لم يكن عنده ما يعطيه وكان رحيما رفيقا فأدب الله نبيه صلى الله عليه وآله بأمره إياه فقال: " ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محصورا (٤) " يقول: إن الناس قد يسألونك ولا يعذرونك، فإذا أعطيت جميع ما عندك كنت قد خسرت من المال فهذه أحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله يصدقها الكتاب والكتاب يصدقه أهله من المؤمنين.
وقال أبوبكر عند موته حيث قيل له: أوص فقال: اوصي بالخمس والخمس كثير فإن الله قد رضي بالخمس.
فأوصى بالخمس وقد جعل الله عزوجل له الثلث عند موته ولو علم أن الثلث خير له أوصى به. ثم من قد علمتم بعده في فضله وزهده سلمان وأبوذر رضي الله عنهما فأما سلمان رضي الله عنه فكان إذا أخذ عطاءه رفع منه قوته لسنته حتى يحضره عطاؤه من قابل.
فقيل له: يا أبا عبدالله أنت في زهدك تصنع هذا وإنك لا تدري لعلك تموت اليوم أو غدا.
فكان جوابه أن قال: ما لكم لا ترجون لي البقاء كما خفتم علي الفناء. أو ما علمتم
___________________________________
(١) في بعض نسخ الكافى [ وأنت غير معذور عندى ].
(٢) في الكافى [ فهلا اقتصدت فيه ].
(٣) الاوقية - بضم فسكون وفتح الياء المشددة -: جزء من أجزاء الرطل.
(٤) سورة الاسرى آية ٣١.
(*)
[٣٥٢]
يا جهلة أن النفس تلتاث على صاحبها (١) إذا لم يكن لها من العيش ما تعتمد عليه، فإذا هي أحرزت معيشتها اطمأنت.
فأما أبوذر رضي الله عنه فكانت له نويقات وشويهات يحلبها (٢) ويذبح منها إذا اشتهى أهله اللحم، أو نزل به ضيف أو رأى بأهل الماء الذين هم معه خصاصة نحر لهم الجزور، أو من الشياه على قدر ما يذهب عنهم قرم اللحم (٣) فيقسمه بينهم ويأخذ كنصيب أحدهم لا يفضل عليهم. ومن أزهد من هؤلاء؟ وقد قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله ما قال ولم يبلغ من أمرهما أن صارا لا يملكان شيئا ألبتة كما تأمرون الناس بإلقاء أمتعتهم وشيئهم ويؤثرون به على أنفسهم وعيالاتهم.
واعلموا أيها النفر أني سمعت أبي يروي عن آبائه عليهم السلام أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال يوما: " ما عجبت من شئ كعجبي من المؤمن أنه إن قرض جسده في دار الدنيا بالمقاريض كان خيرا له، وإن ملك ما بين مشارق الارض ومغاربها كان خيرا له، فكل ما يصنع الله عزوجل به فهو خير له " فليت شعري هل يحيق فيكم اليوم (٤) ما قد شرحت لكم أم أزيدكم.
أو ما علمتم أن الله جل اسمه قد فرض على المؤمنين في أول الامر أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين ليس له أن يولي وجهه عنهم ومن ولاهم يومئذ دبره فقد تبوأ مقعده من النار ثم حولهم من حالهم رحمة منه فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفا من الله عزوجل عن المؤمنين (٥)، فنسخ الرجلان العشرة.
وأخبروني أيضا عن القضاة أجور منهم حيث يفرضون على الرجل منكم نفقة امرأته إذا قال: أنا زاهد وإنه لا شئ لي؟ فإن قلتم: جور ظلمتم أهل الاسلام وإن
___________________________________
(١) " تلتاث " أى تبطئ وتحتبس عن الطاعات وتسترخى وتستضعف.
(٢) النويقات: جمع نويقة تصغير الناقة والشويهة: جمع شويهة تصغير الشاة.
(٣) أهل الماء هم الذين يسقون له الماء. والجزور - كرسول -: البعير وما ينحر من الابل و الغنم والشاة في بعض النسخ [ الشاة ] والقرم - محركة -: شدة شهوة اللحم.
(٤) يحيق فيه: أثر فيه. - وبه: أحاط. - وبهم: نزل.
وفى بعض نسخ الكافى [ يحتفى ] وفى بعضها [ يحق ].
(٥) في الكافى [ للمؤمنين ].
(*)
[٣٥٣]
قلتم: بل عدل خصمتم أنفسكم. وحيث تريدون صدقة (١) من تصدق على المساكين عند الموت بأكثر من الثلث؟ أخبروني لو كان الناس كلهم كما تريدون زهادا لا حاجة لهم في متاع غيرهم، فعلى من كان يتصدق بكفارات الايمان والنذور والصدقات من فرض الزكاة من الابل والغنم والبقر وغير ذلك من الذهب والفضة والنخل والزبيب وسائر ما قد وجبت فيه الزكاة؟ إذا كان الامر على ما تقولون لا ينبغي لاحد أن يحبس شيئا من عرض الدنيا إلا قدمه وإن كان به خصاصة. فبئس ما ذهبتم إليه (٢) وحملتم الناس عليه من الجهل بكتاب الله عزوجل وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وأحاديثه التي يصدقها الكتاب المنزل، أوردكم إياها بجهالتكم وترككم النظر في غرائب القرآن من التفسير بالناسخ من المنسوخ والمحكم والمتشابه والامر والنهي.
وأخبروني أنتم عن سليمان بن داود عليه السلام حيث سأل الله ملكا لا ينبغي لاحد من بعده فأعطاه الله جل اسمه ذلك، وكان عليه السلام يقول الحق ويعمل به ثم لم نجد الله عاب ذلك عليه ولا أحدا من المؤمنين.
وداود عليه السلام قبله في ملكه وشدة سلطانه.
ثم يوسف النبي عليه السلام حيث قال لملك مصر: " اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم (٣) " فكان أمره الذي كان اختار مملكة الملك وما حولها إلى اليمن فكانوا يمتارون الطعام (٤) من عنده لمجاعة أصابتهم، وكان عليه السلام يقول الحق ويعمل به فلم نجد أحدا عاب ذلك عليه.
ثم ذو القرنين عبد أحب الله فأحبه، طوى له الاسباب وملكه مشارق الارض و مغاربها وكان يقول بالحق ويعمل به ثم لم نجد أحدا عاب ذلك عليه فتأدبوا أيها النفر بآداب الله عزوجل للمؤمنين واقتصروا على أمر الله ونهيه ودعوا عنكم ما اشتبه عليكم مما لا علم لكم به وردوا [ ال ] - علم إلى أهله توجروا وتعذروا عند الله تبارك وتعالى و كونوا في طلب علم الناسخ من القرآن من منسوخه ومحكمه من متشابهه وما أحل
___________________________________
(١) كذا وفى الكافى [ حيث يردون صدقة ].
(٢) في الكافى [ ذهبتم فيه ].
(٣) سورة يوسف آية ٥٦.
(٤) يمتارون: يحملون الطعام يقال: فلان يمتار أهله: إذا حمل إليهم أقواتهم من غير بلدهم.
والميرة: طعام يمتار الانسان أى يجبله من بلد إلى بلد.
(*)
[٣٥٤]
الله فيه مما حرم، فإنه أقرب لكم من الله وأبعد لكم من الجهل. ودعوا الجهالة لاهلها، فإن أهل الجهل كثير وأهل العلم قليل وقد قال الله: " وفوق كل ذي علم عليم " (١)
* (كلامه عليه السلام في خلق الانسان وتركيبه) *
قال عليه السلام: عرفان المرء نفسه أن يعرفها بأربع طبائع وأربع دعائم وأربعة أركان فطبايعه: الدم والمرة والريح والبلغم (٢) ودعائمه: العقل ومن العقل الفهم والحفظ. وأركانه النور والنار والروح والماء. وصورته طينته. فأبصر بالنور وأكل وشرب بالنار وجامع وتحرك بالروح. ووجد طعم الذوق والطعام بالماء فهذا تأسيس صورته.
فإذا كان تأييد عقله من النور كان عالما حافظا ذكيا فطنا فهما وعرف فيما هو ومن أين يأتيه ولاي شئ هو ههنا وإلى ما هو صائر، باخلاص الوحدانية والاقرار بالطاعة وقد تجري فيه النفس وهي حارة وتجري فيه وهي باردة، فإذا حلت به الحرارة أشر وبطر وارتاح (٣) وقتل وسرق وبهج واستبشر وفجر وزنا وبذخ.
وإذا كانت باردة اهتم وحزن واستكان وذبل (٤) ونسي، فهي العوارض التي تكون منها الاسقام ولا يكون أول ذلك إلا بخطيئة عملها فيوافق ذلك من مأكل أو مشرب في حد ساعات لا تكون تلك الساعة موافقة لذلك المأكل والمشرب بحال الخطيئة فيستوجب الالم من ألوان الاسقام.
ثم قال عليه السلام بعد ذلك بكلام آخر: إنما صار الانسان يأكل ويشرب ويعمل بالنار ويسمع ويشم بالريح ويجد لذة الطعام والشراب بالماء ويتحرك بالروح فلولا أن النار في معدته لما هضمت الطاعم والشراب في جوفه. ولولا الريح ما التهبت نار المعدة ولا
___________________________________
(١) سورة يوسف آية ٧٦.
(٢) المرة - بكسر ففتح مشددة -: خلط من خلط البدن كالصفراء أو السوداء والجمع مرار.
(٣) أشر - كعلم -: مرح. وبطر - كعلم - طغى بالنعمة فصرفها في غير وجهها، واخذته دهشة عند هجوم النعمة. والبطر - بالتحريك كمنع - شدة النشاط. وارتاح إلى الشئ: أحبه ومال إليه. والارتياح السرور والنشاط. والبذخ - بالتحريك -: الفخر والتطاول.
(٤) ذبل النبات كضرب ونصر -: قل ماؤها وذهبت نضارتها. وذبلت بشرته: قل ماء جلدته و ذهبت نضارته. وذبل الفرص: ضمر.
(*)
[٣٥٥]
خرج الثفل من بطنه (١) ولو لا الروح لا جاء ولا ذهب.
ولو لا برد الماء لاحرقته نار المعدة.
ولو لا النور ما أبصر ولا عقل. والطين صورته.
والعظم في جسده بمنزلة الشجر في الارض.
والشعر في جسده بمنزلة الحشيش في الارض.
والعصب في جسده بمنزلة اللحاء على الشجر (٢).
والدم في جسده بمنزلة الماء في الارض.
ولا قوام للارض إلا بالماء ولا قوام لجسد الانسان إلا بالدم.
والمخ دسم الدم وزبده.
فهكذا الانسان خلق من شأن الدنيا وشأن الآخرة فإذا جمع الله بينهما صارت حياته في الارض، لانه نزل من شأن السماء إلى الدنيا، فإذا فرق الله بينهما صارت تلك الفرقة الموت يرد شأن الآخرة إلى السماء.
فالحياة في الارض والموت في السماء وذلك أنه يفرق بين الروح والجسد، فردت الروح والنور إلى القدرة الاولى وترك الجسد لانه من شأن الدنيا.
وإنما فسد الجسد في الدنيا لان الريح تنشف الماء (٣) فيبس الطين فيصير رفاتا ويبلى ويرد كل إلى جوهره الاول وتحركت الروح بالنفس والنفس حركتها من الريح، فما كان من نفس المؤمن فهو نور مؤيد بالعقل. وما كان من نفس الكافر فهو نار مؤيد بالنكراء (٤)، فهذا من صورة ناره وهذا من صورة نوره والموت رحمة من الله لعبده المؤمن ونقمة على الكافر.
ولله عقوبتان إحداهما من الروح والاخرى تسليط الناس بعض على بعض، فما كان من قبل الروح فهو السقم والفقر. وما كان من تسليط فهو النقمة وذلك قول الله عزوجل: " وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون (٥) " من الذنوب.
فما كان من ذنب الروح فعقوبته بذلك السقم والفقر. وما كان من تسليط فهو النقمة. وكل ذلك
___________________________________
(١) الثفل - بالضم -: حثالة الشئ وهى ما يستقر في أسفل الشئ من كدرة والمراد هنا: النجاسة والعذرة.
(٢) اللحاء - بالكسر -: قشر العود أو الشجر.
(٣) نشف الماء: أخذه من مكانه وتنشف الثوب العرق: شربه.
(٤) النكراء: الدهاء والفطنة بالمنكر والشيطنة.
(٥) سورة الانعام آية ١٢٩.
(*)
[٣٥٦]
عقوبة للمؤمن في الدنيا وعذاب له فيها.
وأما الكافر فنقمة عليه في الدنيا وسوء العذاب في الآخرة ولا يكون ذلك إلا بذنب والذنب من الشهوة هي من المؤمن خطاء ونسيان وأن يكون مستكرها ومالا يطيق. وما كان من الكافر فعمد وجحود واعتداء وحسد وذلك قول الله عزوجل: " كفارا حسدا من عند أنفسهم (١) ".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق