ما روى عن الامام الراشد الصابر أبى الحسن على بن محمد ...
عليهما السلام في طوال هذه المعانى
(رسالته «ع» في الرد على أهل الجبر والتفويض واثبات العدل والمنزلة بين المنزلتين)
من علي بن محمد، سلام عليكم وعلى من اتبع الهدى ورحمة الله وبركاته، فإنه ورد علي كتابكم (١) وفهمت ما ذكرتم من اختلافكم في دينكم وخوضكم في القدر و مقالة من يقول منكم بالجبر ومن يقول بالتفويض وتفرقكم في ذلك وتقاطعكم وما ظهر من العداوة بينكم، ثم سألتموني عنه وبيانه لكم وفهمت ذلك كله.
اعلموا رحمكم الله أنا نظرنا في الآثار وكثرة ما جاءت به الاخبار فوجدناها عند جميع من ينتحل الاسلام ممن يعقل عن الله عزوجل لا تخلو من معنيين: إما حق فيتبع وإما باطل فيجتنب. وقد اجتمعت الامة قاطبة لا اختلاف بينهم أن القرآن حق لا ريب فيه عند جميع أهل الفرق وفي حال اجتماعهم مقرون بتصديق الكتاب وتحقيقه، مصيبون، مهتدون وذلك بقول رسول الله صلى الله عليه واله: " لا تجتمع امتي على ضلالة " فأخبر أن جميع ما اجتمعت عليه الامة كلها حق، هذا إذا لم يخالف بعضها بعضا. والقرآن حق لا اختلاف بينهم في تنزيله وتصديقه: فإذا شهد القرآن بتصديق خبر وتحقيقة وأنكر الخبر طائفة من الامة لزمهم الاقرار به ضرورة حين اجتمعت في الاصل على تصديق الكتاب، فإن [ هي ] جحدت وأنكرت لزمها الخروج من الملة.
فأول خبر يعرف تحقيقة من الكتاب وتصديقه والتماس شهادته عليه خبر ورد عن رسول الله صلى الله عليه واله ووجد بموافقة الكتاب وتصديقه بحيث لا تخالفة أقاويلهم، حيث قال: " إني مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي - أهل بيتي - لن تضلوا ما تمسكتم
___________________________________
(١) رواها الطبرسى في الاحتجاج مجملا تحت عنوان رسالته عليه السلام إلى اهل الاهواز حين سألوه عن الجبر والتفويض.
(*)
[٤٥٩]
بهما وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض ".
فلما وجدنا شواهد هذا الحديث في كتاب الله نصا مثل قوله عزوجل: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ومن يتول الله ورسوله والذين آمنو فإن حزب الله هم الغالبون (١) ".
وروت العامة في ذلك أخبارا لامير المؤمنين عليه السلام أنه تصدق بخاتمه وهو راكع فشكر الله ذلك له وأنزل الآية فيه. فوجدنا رسول الله صلى الله عليه واله قد أتى بقوله: " من كنت مولاه فعلي مولاه " وبقوله: " أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي " ووجدناه يقول: " علي يقضي ديني وينجز موعدي وهو خليفتي عليكم من بعدي ".
فالخبر الاول الذي استنبطت منه هذه الاخبار خبر صحيح مجمع عليه لا اختلاف فيه عندهم، وهو أيضا موافق للكتاب، فلما شهد الكتاب بتصديق الخبر و هذه الشواهد الاخر لزم على الامة الاقرار بها ضرورة إذ كانت هذه الاخبار شواهدها من القرآن ناطقة ووافقت القرآن والقرآن وافقها.
ثم وردت حقائق الاخبار من رسول الله صلى الله عليه واله عن الصادقين عليهم السلام ونقلها قوم ثقات معروفون فصار الاقتداء بهذه الاخبار فرضا واجبا على كل مؤمن ومؤمنة لا يتعداه إلا أهل العناد.
وذلك أن أقاويل آل رسول الله صلى الله عليه واله متصلة بقول الله وذلك مثل قوله في محكم كتابه: " إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مهينا (٢) " ووجدنا نظير هذه الآية قول رسول الله صلى الله عليه واله: " من آذى عليا فقد آذاني ومن آذاني فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن ينتقم منه " وكذلك قوله صلى الله عليه واله: " من أحب عليا فقد أحبني ومن أحبني فقد أحب الله ".
ومثل قوله صلى الله عليه واله في بني وليعة: " لابعثن إليهم رجلا كنفسي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله قم يا علي فسر إليهم " (٣).
وقوله صلى الله عليه واله يوم خيبر: " لابعثن إليهم غدا رجلا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله كرارا غير فرارا لا يرجع
___________________________________
(١) سورة المائدة آية ٦٠، ٦١.
(٢) سورة الاحزاب آية ٥٧.
(٣) بنو وليعة - كسفينة -: حى من كندة.
وقد مضى هذه القضية أيضا في احتجاجات الامام الرضا عليه السلام في الاصطفاء مع العلماء في مجلس المأمون.
(*)
[٤٦٠]
حتى يفتح الله عليه ". فقضى رسول الله صلى الله عليه واله بالفتح قبل التوجيه فاستشرف لكلامه أصحاب رسول الله صلى الله عليه واله فلما كان من الغد دعا عليا عليه السلام فبعثه إليهم فاصطفاه بهذه المنقبة (١) وسماه كرارا غير فرار، فسماه الله محبا لله ولرسوله، فأخبر أن الله و رسوله يحبانه.
وإنما قدمنا هذا الشرح والبيان دليلا على ما أردنا وقوة لما نحن مبينوه من أمر الجبر والتفويض والمنزلة بين المنزلتين وبالله العون والقوة وعليه نتوكل في جميع امورنا. فإنا نبدأ من ذلك بقول الصادق عليه السلام: " لا جبر ولا تفويض ولكن منزلة بين المنزلتين وهي صحة الخلقة وتخلية السرب (٢) والمهلة في الوقت والزاد مثل الراحلة والسبب المهيج للفاعل على فعله "، فهذه خمسة أشياء جمع به الصادق عليه السلام جوامع الفضل، فإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنه مطروحا بحسبه، فأخبر الصادق عليه السلام بأصل ما يجب على الناس من طلب معرفته ونطق الكتاب بتصديقه فشهد بذلك محكمات آيات رسوله، لان الرسول صلى الله عليه واله وآله عليهم السلام لا يعدون شيئا من قوله وأقاويلهم حدود القرآن، فإذا وردت حقائق الاخبار والتمست شواهدها من التنزيل فوجد لها موافقا وعليها دليلا كان الاقداء بها فرضا لا يتعداه إلا أهل العناد كما ذكرنا في أول الكتاب.
ولما التمسنا تحقيق ما قاله الصادق عليه السلام من المنزلة بين المنزلتين وإنكاره الجبر والتفويض وجدنا الكتاب قد شهد له وصدق مقالته في هذا، وخبر عنه أيضا موافق لهذا، أن الصادق عليه السلام سئل هل أجبر الله العباد على المعاصي؟ فقال الصادق عليه السلام: هو أعدل من ذلك.
فقيل له: فهل فوض إليهم؟ فقال عليه السلام: هو أعز وأقهر لهم من ذلك.
وروي عنه أنه قال: الناس في القدر على ثلاثة أوجه: رجل يزعم أن الامر مفوض إليه فقدوهن الله في سلطانه فهو هالك. ورجل يزعم أن الله عزوجل أجبر العباد على المعاصي وكلفهم ما لا يطويقون فقد ظلم الله في حكمه فهو هالك. ورجل يزعم أن الله كلف العباد ما يطيقون ولم يكلفهم ما لا
___________________________________
(١) في بعض النسخ [ بهذه الصفة ].
(٢) السرب - بالفتح -: الطريق والصدر. - وبالكسر - أيضا: الطريق والقلب. - و بالتحريك -: الماء السائل.
وسيأتى بيان هذه الخمسة عن الامام عليه السلام بعد شرح الجبر والتفويض وانهما خلاف العدل والعقل.
(*)
[٤٦١]
يطيقون، فإذا أحسن حمد الله وإذا أساء استغفر الله فهذا مسلم بالغ، فأخبر عليه السلام أن من تقلد الجبر والتفويض ودان بهما فهو على خلاف الحق.
فقد شرحت الجبر الذي من دان به يلزمه الخطأ، وأن الذي يتقلد التفويض يلزمه الباطل، فصارت المنزلة بين المنزلتين بينهما.
ثم قال عليه السلام: وأضرب لكل باب من هذه الابواب مثلا يقرب المعنى للطالب ويسهل له البحث عن شرحه، تشهد به محكمات آيات الكتاب وتحقق تصديقه عند ذوي الالباب وبالله التوفيق والعصمة.
فأما الجبر الذي يلزم من دان به الخطأ فهو قول من زعم أن الله عزوجل أجبر العباد على المعاصي وعاقبهم عليها. ومن قال بهذا القول فقد ظلم الله في حكمه وكذبه ورد عليه قوله: " ولا يظلم ربك أحدا (١) ". وقوله: " ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد (٢) ".
وقوله: " إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون (٣) ".
مع آي كثيرة في ذكر هذا.
فمن زعم أنه مجبر على المعاصي فقد أحال بذنبه على الله و قد ظلمه في عقوبته. ومن ظلم الله فقد كذب كتابه. ومن كذب كتابه فقد لزمه الكفر باجتماع الامة. ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا مملوكا لا يملك نفسه ولا يملك عرضا من عرض الدنيا ويعلم مولاه ذلك منه فأمره على علم منه بالمصير إلى السوق لحاجة يأتيه بها ولم يملكه ثمن ما يأتيه به من حاجته وعلم المالك أن على الحاجة رقيبا لا يطمع أحد في أخذها منه إلا بما يرضى به من الثمن، وقد وصف مالك هذا العبد نفسه بالعدل والنصفة وإظهار الحكمة ونفي الجور وأوعد عبده إن لم يأته بحاجته أن يعاقبه على علم منه بالرقيب الذي على حاجته أنه سيمنعه، وعلم أن المملوك لا يملك ثمنها ولم يملكه ذلك، فلما صار العبد إلى السوق وجاء ليأخذ حاجته التي بعثه المولى لها وجد عليها مانعا يمنع منها إلا بشراء وليس يملك العبد ثمنها، فانصرف إلى مولاه
___________________________________
(١) سورة الكهف آية ٤٧.
(٢) سورة الحج آية ١٠.
(٣) سورة يونس آيه ٤٥ (*)
[٤٦٢]
خائبا بغير قضاء حاجته فاغتاظ مولاه من ذلك وعاقبه عليه.
أليس يجب في عدله و حكمه أن لا يعاقبه وهو يعلم أن عبده لا يملك عرضا من عروض الدنيا ولم يملكه ثمن حاجته؟ فإن عاقبه عاقبه ظالما متعديا عليه مبطلا لما وصف من عدله وحكمته ونصفته وإن لم يعاقبه كذب نفسه في وعيده إياه حين أوعده بالكذب والظلم اللذين ينفيان العدل والحكمة.
تعالى عما يقولون علوا كبيرا، فمن دان بالجبر أو بما يدعو إلى الجبر فقد ظلم الله ونسبه إلى الجور والعدوان، إذ أوجب على من أجبر [ ه ] العقوبة.
ومن زعم أن الله أجبر العباد فقد أوجب على قياس قوله إن الله يدفع عنهم العقوبة.
ومن زعم أن الله يدفع عن أهل المعاصي العذاب فقد كذب الله في وعيده حيث يقول: " بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون (١) ".
وقوله: " إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا (٢) ".
وقوله: " إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارا كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب إن الله كان عزيزا حكيما (٣) "، مع آى كثيرة في هذا الفن ممن كذب وعيد الله ويلزمه في تكذيبه آية من كتاب الله الكفر وهو ممن قال الله: " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحيوة الدنيا ويوم القيمة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما يعملون (٤) " بل نقول: إن الله عزوجل جازى العباد على أعمالهم ويعاقبهم على أفعالهم بالاستطاعة التي ملكهم إياها، فأمرهم ونهاهم بذلك ونطق كتابه: " من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثله وهم لا يظلمون (٥) " وقال جل ذكره: " يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا
___________________________________
(١) سورة البقرة آية ٧٦.
(٢) سورة النساء آية ١١.
(٣) سورة النساء آية ٥٩.
(٤) سورة البقرة آية ٧٩.
(٥) سورة الانفال آية ١٦١.
(*)
[٤٦٣]
ويحذركم الله نفسه (١) ".
وقال: " اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم (٢) ".
فهذه آيات محكمات تنفي الجبر ومن دان به.
ومثلها في القرآن كثير، اختصرنا ذلك لئلا يطول الكتاب وبالله التوفيق.
وأما التفويض الذي أبطله الصادق عليه السلام وأخطأ (٣) من دان به وتقلده فهو قوله القائل: إن الله جل ذكره فوض إلى العباد اختيار أمره ونهيه وأهملهم.
وفي هذا كلام دقيق لمن يذهب إلى تحريره ودقته.
وإلى هذا ذهبت الائمة المهتدية من عترة الرسول صلى الله عليه واله، فانهم قالوا: لو فوض إليهم على جهة الاهمال لكان لازما له رضا ما اختاروه واستوجبوا منه الثواب (٤) ولم يكن عليهم فيما جنوه العقاب إذا كان الاهمال واقعا.
وتنصرف هذه المقالة على معنيين: إما أن يكون العباد تظاهروا عليه فألزموه قبول اختيارهم بآرائهم ضرورة كره ذلك أم أحب فقد لزمه الوهن، أو يكون عزوجل عجز عن تعبدهم بالامر والنهي على إرادته كرهوا أو أحبوا ففوض أمره ونهيه إليهم وأجراهما على محبتهم، إذ عجز عن تعبدهم بإرادته فجعل الاختيار إليهم في الكفر والايمان ومثل ذلك مثل رجل ملك عبدا ابتاعه ليخدمه ويعرف له فضل ولايته ويقف عند أمره ونهيه، وادعى مالك العبد أنه قاهر عزيز حكيم، فأمر عبده ونهاه ووعده على اتباع أمره عظيم الثواب وأوعده على معصيته أليم العقاب، فخالف العبد إرادة مالكه ولم يقف عند أمره ونهيه، فأي أمر أمره أو أي نهي نهاه عنه لم يأته على إرادة المولى بل كان العبد يتبع ارادة نفسه واتباع هواه ولا يطيق المولى أن يرده إلى اتباع أمره ونهيه والوقوف على إرادته، ففوض اختيار أمره ونهيه إليه ورضي منه بكل ما فعله على إرادة العبد لا على إرادة المالك وبعثه في بعض حوائجه وسمى له الحاجة فخالف على مولاه وقصد لارادة نفسه واتبع هواه، فلما رجع إلى مولاه نظر إلى ما أتاه به فإذا هو خلاف ما أمره به، فقال له: لم أتيتني بخلاف ما أمرتك؟ فقال العبد: أتكلت على تفويضك الامر إلي فاتبعت هواي وإرادتي، لان المفوض إليه غير محظور عليه فاستحال التفويض
___________________________________
(١) سورة آل عمران آية ٢٨.
(٢) سورة المؤمن آية ١٧.
(٣) في بعض النسخ [ وخطأ ].
(٤) في بعض النسخ [ به الثواب ].
(*)
[٤٦٤]
أوليس يجب على هذا السبب إما أن يكون المالك للعبد قادرا يأمر عبده باتباع أمره ونهيه على إرادته لا على إرادة العبد ويملكه من الطاقة بقدر ما يأمره به وينهاه عنه، فإذا أمره بأمر ونهاه عن نهي عرفه الثواب والعقاب عليهما.
وحذره ورغبه بصفة ثوابه وعقابه ليعرف العبد قدرة مولاة بما ملكه من الطاقة (١) لامره ونهيه وترغيبه وترهيبه، فيكون عدله وإنصافه شاملا له وحجته واضحة عليه للاعذار والانذار. فإذا اتبع العبد أمر مولاه جازاه وإذا لم يزدجر عن نهيه عاقبه أو يكون عاجزا غير قادر ففوض أمر إليه أحسن أم أساء أطاع أم عصى، عاجز عن عقوبته ورده إلى اتباع أمره.
وفي إثبات العجز نفي القدرة والتأله وإبطال الامر والنهي والثواب والعقاب ومخالفة الكتاب إذ يقول: " ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم (٢) " وقوله عزوجل: " اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون (٣) " وقوله: " وما خلقت الجن والانس إلا ليعبدون * ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون (٤) " وقوله: " اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا (٥) " وقوله: " وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون (٦) ".
فمن زعم أن الله تعالى فوض أمره ونهيه إلى عباده فقد أثبت عليه العجز وأوجب عليه قبول كل ما عملوا من خير وشر وأبطل أمر الله ونهيه ووعده ووعيده، لعلة ما زعم أن الله فوضها إليه لان المفوض إليه يعمل بمشيئته، فإن شاء الكفر أو الايمان كان غير مردود عليه ولا محظور، فمن دان بالتفويض على هذا المعنى فقد أبطل جميع ما ذكرنا من وعده ووعيده وأمره ونهيه وهو من أهل هذه الآية " أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحيوة الدنيا ويوم القيامة يردون
___________________________________
(١) في بعض النسخ [ من الطاعة ].
(٢) سوره الزمر آية ٦.
(٣) سورة آل عمران آية ٩٧.
(٤) سورة الذاريات آيه ٥٦، ٥٧.
(٥) سورة النساء آية ٤٠.
(٦) مضمون مأخوذ من الاية الواردة في سورة الانفال آية ٢٠ لا لفظها.
(*)
[٤٦٥]
إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون (١) ": تعالى الله عما يدين به أهل التفويض علوا كبيرا.
لكن نقول: إن الله عزوجل خلق الخلق بقدرته، وملكهم استطاعة تعبدهم بها، فأمرهم ونهاهم بما أراد(٢) فقبل منهم اتباع أمره ورضي بذلك لهم. ونهاهم عن معصيته وذم من عصاه وعاقبه عليها ولله الخيرة في الامر والنهي، يختار ما يريد ويأمر به وينهى عما يكره ويعاقب عليه بالاستطاعة التى ملكها عباده لاتباع أمره واجتناب معاصيه، لانه ظاهر العدل والنصفة والحكمة البالغة، بالغ الحجة بالاعذار والانذار وإليه الصفوة يصطفي من عباده من يشاء لتبليغ رسالته واحتجاجه على عباده، اصطفى محمدا صلى الله عليه وآله وبعثه برسالاته إلى خلقه، فقال من قال من كفار قومه حسدا واستكبارا: " لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (٣) " يعني بذلك امية بن أبي الصلت وأبا مسعود الثقفي (٤)، فأبطل الله اختيارهم ولم يجز لهم آراءهم حيث يقول:
___________________________________
(١) سورة البقرة آية ٧٩.
(٢) في الاحتجاج [ وملكهم استطاعة ما تعبدهم به من الامر والنهى ].
(٣) سورة الزخرف آية ٣٠.
وقال الطبرسى في تفسيره: " يعنون بالقريتين مكة والطائف وتقدير الاية على رجل عظيم من القريتين أى من إحدى القريتين فحذف المضاف ".
(٤) وكذا في الاحتجاج ولكن الظاهر أن المراد بالرجل العظيم هو الذى كان من إحدى القريتين كالوليد بن المغيرة من مكة وأبى مسعود الثقفى من الطائف كما في التفسير فليس أمية بن أبى الصلت وأبومسعود الثقفى من القريتين لانهما كانا من أهل الطائف فيكون كلاهما مثالا للرجل العظيم الذى كان من إحدى القريتين أى الطائف لا من القريتين يعنى مكة والطائف.
فعلى اى نحو كان فالرجلان كانا عظيمى القدر عند قومهما وذوى الاموال الجسيمة فيهما فزعموا أن من كان كذلك اولى بالنبوة من غيره.
وكان الوليد بن المغيرة عم أبى جهل كان شيخا كبيرا مجربا من دهاة العرب يتحاكمون إليه في الامور وينشدونه الاشعار فما اختاره من الشعر كان مختارا وكان له عبيد عشرة عند كل عبد ألف دينار يتجر بها وملك القنطار أى جلد ثور مملو ذهبا.
كان الوليد أحد المستهزئين الخمس الذين كفى الله شرهم وهو الذى جاء قريش عنده فقالوا له: يا عبد شمس ما هذا الذى يقول محمدا سحر أم كهانة ام خطب؟ فقال: دعونى أسمع كلامه فدنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وهو جالس في الحجر، فقال: يا محمد انشدنى شعرك؟ فقال: ما هو بشعر ولكنه كلام الله الذى به بعث أنبياءه ورسله، فقال: اتل، فقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم.
فلما سمع الرحمن استهزأ منه وقال: " بقية الحاشية في الصفحة الاتية " (*)
[٤٦٦]
" أهم يقسمون رحمة ربك نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحيوة الدنيا ورفعنا بعضهم
___________________________________
" بقية الحاشية من الصفحة الماضية " تدعو إلى رجل باليمامة يسمى الرحمن، قال: لا ولكنى ادعو إلى الله وهو الرحمن الرحيم، ثم افتتح حم السجدة فلما بلغ إلى قوله: " فان أعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " وسمعه اقشعر جلده وقامت كل شعرة في بدنه وقام ومشى إلى بيته ولم يرجع إلى قريش، فقيل: صبا عبد شمس إلى دين محمد فاغتمت قريش وغدا عليه أبوجهل فقال: فضحتنا يا عم، قال: يا ابن أخ ما ذاك وانى على دين قومى ولكن سمعت كلاما صعبا تقشعر منه الجلود، قال: أفشعر هو؟ قال: ما هو بشعر.
قال؟ فخطب؟ قال: لا، ان الخطب كلام متصل وهذا كلام منثور لا يشبه بعضه بعضا له طلاوة، قال: فكهانة هو؟ قال: لا، قال: فما هو؟ قال: دعنى أفكر فيه، فلما كان من الغد، قالوا: يا عبد شمس ما تقول؟ قال: قولوا: هو سحر فانه أخذ بقلوب الناس فانزل الله تعالى: " ذرنى ومن خلقت وحيدا - إلى قوله -: عليها تسعة عشر ". وجاء يوما إلى رسول الله صلى الله عليه وآله فقال: اقرأ على، فقال: " إن الله أمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذى القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغى يعظكم لعلكم تذكرون "، فقال: أعد؟ فأعاد، فقال: والله له الحلاوة والطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمعذق وما هذا بقول بشر. وأما امية بن أبى الصلت الثقفى كان من اهل الطائف وكان من أكبر شعراء الجاهلية وأغلب شعره متعلق بالاخرة وكان ينظر في الكتب المتقدمة ويقرؤها وحرم الخمر وشك في الاوثان ورغب عن عبادتها والتمس الدين وأخبر أن نبيا يخرج. قد أظل زمانه وكان يؤمل أن يكون ذلك النبى فلما بعث النبى وبلغ خبره كفر به حسدا وقال: كنت أرجو أن اكونه.
كان أبوه عبيد الله بن ربيعة المكنى بابى الصلت وأمه رقية بنت عبد الشمس.
مات في الطائف ومما قال في مرض موته:
كل عيش وإن تطاول دهرا****منتهى أمره إلى أن يزول****
ليتنى كنت قبل ما قد بدا لى****في رؤوس الجبال أرعى الوعولا****
وروى أنه استنشد رسول الله صلى الله عليه وآله اخته شعره من بعد موته فأنشدته:
لك الحمد والنعماء والفضل ربنا****ولا شئ اعلى منك جدا وأمجدا****
وهى قصيدة طويلة حتى أتت على آخرها، ثم انشدته قصيدته التى فيها:
وقف الناس للحساب جميعا****فشقى معذب وسعيد****
إلى غير ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: آمن شعره وكفر قلبه.
وأنزل الله فيه " واتل عليهم نبأ الذى آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب ان تحمل عليه يلهث او تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا - إلى قوله -: وانفسهم كانوا يظلمون ".
وأبومسعود هو عروة بن مسعود الثقفى كان من أهل الطائف وأحد السادة الاربعة في الاسلام: " بشر بن هلال العبدى، عدى بن حاتم الطائى، سراقة بن مالك المدلجى، عروة بن مسعود الثقفى ".
" بقية الحاشية في الصفحة الاتية " (*)
[٤٦٧]
فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا ورحمة ربك خير مما يجمعون (١) ".
ولذلك اختار من الامور ما أحب ونهى عما كره، فمن أطاعه أثابه. ومن عصاه عاقبه ولو فوض اختيار أمره إلى عباده لاجاز لقريش اختيار أمية بن أبي الصلت وأبي مسعود الثقفي، إذ كانا عندهم أفضل من محمد صلى الله عليه وآله. فلما أدب الله المؤمنين بقوله: " وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم (٢) "، فلم يجز لهم الاختيار بأهوائهم ولم يقبل منهم إلا اتباع أمره واجتناب نهيه على يدي من اصطفاه، فمن أطاعه رشد ومن عصاه ضل وغوى ولزمته الحجة بما ملكه من الاستطاعة لاتباع أمره واجتناب نهيه، فمن أجل ذلك حرمه ثوابه وأنزل به عقابه.
وهذا القول بين القولين ليس بجبر ولا تفويض وبذلك أخبر أمير المؤمنين صلوات الله عليه عباية بن ربعي الاسدي (٣) حين سأله عن الاستطاعة التي بها يقوم ويقعد ويفعل،
___________________________________
" بقية الحاشية من الصفحة الماضية " كان أبومسعود عاقلا لبيبا وهو الذى أرسلته قريش يوم الحديبية فعقد معه الصلح وهو كافر ثم أسلم سنة تسع من الهجرة بعد رجوع النبى صلى الله عليه وآله من الطائف.
واستأذن النبى صلى الله عليه وآله في الرجوع إلى قومه، فقال: انى أخاف أن يقتلوك، فقال: ان وجدونى نائما ما أيقظونى، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وآله، فرجع إلى الطائف ودعا قومه إلى الاسلام ونصح لهم فعصوه واسمعوه الاذى حتى اذا طلع الفجر قام في غرفة من داره فأذن وتشهد فرماه رجل بسهم فقتله ولما بلغ النبى صلى الله عليه وآله قتله قال: مثل عروة مثل صاحب يس دعا قومه إلى الله فقتلوه وهو جد أعلى لعلى بن الحسين عليهما السلام المقتول بكربلا من قبل امه، كان امه ليلى بنت أبى مرة بن عروة بن مسعود الثقفى.
وهو الذى روى عنه تعظيم الصحابة للنبى حين رجع من عند النبى إلى أصحابه يوم الحديبية، فقال: يا قوم لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر وكسرى والنجاشى والله ان رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمدا صلى الله عليه وآله، اذا أمرهم ابتدروا أمره واذا توضأ كانوا يقتتلون على وضوئه واذا تكلموا خفضوا أصواتهم عنده وما يحدون اليه النظر تعظيما له.
___________________________________
(١) سورة الزخرف آية ٣١.
(٢) سورة الاحزاب آية ٣٦.
(٣) قد مضى ترجمة عباية بن ربعى وحديثه ص ٢١٣.
(*)
[٤٦٨]
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: سألت عن الاستطاعة تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية، فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: قل يا عباية، قال وما أقول؟ قال عليه السلام: إن قلت: إنك تملكها مع الله قتلتك وإن قلت: تملكها دون الله قتلتك قال عباية: فما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: تقول إنك تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن يملكها إياك كان ذلك من عطائه، وإن يسلبكها كان ذلك من بلائه، هو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك، أم سمعت الناس يسألون الحول والقوة حين يقولون: لا حول ولا قوة إلا بالله.
قال عباية: وما تأويلها يا أمير المؤمنين؟ قال عليه السلام: لا حول عن معاصي الله إلا بعصمة الله ولا قوة لنا على طاعة الله إلا بعون الله، قال: فوثب عباية فقبل يديه ورجليه.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام حين أتاه نجدة يسأله عن معرفة الله، قال: يا أمير المؤمنين بماذا عرفت ربك؟ قال عليه السلام: بالتمييز الذي خلوني والعقل الذي دلني، قال: أفمجبول أنت عليه؟ قال: لو كنت مجبولا ما كنت محمودا على إحسان ولا مذموما على إساءة وكان المحسن أولى باللائمة من المسيئ فعلمت أن الله قائم باق وما دونه حدث حائل زائل، وليس القديم الباقي كالحدث الزائل، قال نجدة: أجدك أصبحت حكيما يا أمير المؤمنين، قال أصبحت مخيرا، فإن أتيت السيئة [ ب ] مكان الحسنة فأنا المعاقب عليها.
وروي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال لرجل سأله بعد انصرافه من الشام، فقال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن خروجنا إلى الشام بقضاء وقدر؟ قال عليه السلام: نعم يا شيخ، ما علوتم تلعة(١) ولا هبطتم واديا إلا بقضاء وقدر من الله، فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي يا أمير المؤمنين؟ فقال عليه السلام: مه يا شيخ، فإن الله قد عظم أجركم في مسيركم وأنتم سائرون، وفي مقامكم وأنتم مقيمون، وفي انصرافكم وأنتم منصرفون ولم تكونوا في شئ من اموركم مكرهين ولا إليه مضطرين، لعلك ظننت أنه قضاء حتم وقدر لازم، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب ولسقط الوعد والوعيد ولما ألزمت الاشياء أهلها (٢) على الحقائق، ذلك مقالة عبدة الاوثان وأولياء الشيطان، إن الله عزوجل أمر تخييرا ونهى تحذيرا ولم يطع مكرها ولم يعص مغلوبا ولم يخلق
___________________________________
(١) التلعة: ما علا من الارض.
(٢) في بعض النسخ [ الاسماء أهلها ].
(*)
[٤٦٩]
السموات والارض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار فقام الشيخ فقبل رأس أمير المؤمنين عليه السلام وأنشأ يقول:
أنت الامام الذي نرجو بطاعته****يوم النجاة من الرحمن غفرانا****
أوضحت من ديننا ما كان ملتبسا****جزاك ربك عنا فيه رضوانا (١)****
فليس معذرة في فعل فاحشة****قد كنت راكبها ظلما وعصيانا (٢)****
فقد دل أمير المؤمنين عليه السلام على موافقة الكتاب ونفي الجبر والتفويض اللذين يلزمان من دان بهما وتقلدهما الباطل والكفر وتكذيب الكتاب ونعوذ بالله من الضلالة والكفر، ولسنا ندين بجبر ولا تفويض لكنا نقول بمنزلة بين المنزلتين وهو الامتحان والاختبار بالاستطاعة التي ملكنا الله وتعبدنا بها على ما شهد به الكتاب ودان به الائمة الابرار من آل الرسول صلوات الله عليهم.
ومثل الاختبار بالاستطاعة مثل رجل ملك عبدا وملك مالا كثيرا أحب أن يختبر عبده على علم منه بما يؤل إليه، فملكه من ماله بعض ما أحب ووقفه (٣) على امور عرفها العبد فأمره أن يصرف ذلك المال فيها ونهاه عن أسباب لم يحبها وتقدم إليه أن يجتنبها ولا ينفق من ماله فيها، والمال يتصرف في أي الوجهين، فصرف المال (٤) أحدهما في اتباع أمر المولى ورضاه، والآخر صرفه في اتباع نهيه وسخطه. وأسكنه دار اختبار أعلمه أنه غير دائم له السكنى في الدار وأن له دارا غيرها وهو مخرجه إليها، فيها ثواب وعقاب دائمان، فإن أنفذ العبد المال الذي ملكه مولاه في الوجه الذي أمره به جعل له ذلك الثواب الدائم في تلك الدار التي أعلمه أنه مخرجه إليها، وإن أنفق المال في الوجه الذي نهاه عن إنفاقه فيه جعل له ذلك العقاب الدائم في دار الخلود.
وقد حد المولى في ذلك حدا معروفا وهو المسكن الذي أسكنه في الدار الاولى، فإذا بلغ الحد استبدل المولى بالمال وبالعبد على أنه لم يزل مالكا للمال والعبد في الاوقات كلها إلا أنه وعد أن لا يسلبه ذلك المال ما كان في تلك الدار الاولى إلى أن يستتم سكناه فيها
___________________________________
(١) رواه الكلينى في الكافى ج ١ ص ١٥٦ وفيه [ جزاك ربك بالاحسان احسان ].
(٢) في بعض النسخ [ عندى لراكبها ظلما وعصيانا ].
(٣) في بعض النسخ [ ووافقه ].
(٤) في بعض النسخ [ فصرف الان ].
(*)
[٤٧٠]
فوفى له لان من صفات المولى العدل والوفاء والنصفة والحكمة، أو ليس يجب إن كان ذلك العبد صرف ذلك المال في الوجه المأمور به أن يفي له بما وعده من الثواب وتفضل عليه بأن استعمله في دار فانية وأثابه على طاعته فيها نعيما دائما في دار باقية دائمة.
وإن صرف العبد المال الذي ملكه مولاه أيام سكناه تلك الدار الاولى في الوجه المنهي عنه وخالف أمر مولاه كذلك تجب عليه العقوبة الدائمة التي حذره إياها، غير ظالم له لما تقدم إليه وأعلمه وعرفه وأوجب له الوفاء بوعده ووعيده، بذلك يوصف القادر القاهر.
وأما المولى فهو الله عزوجل، وأما العبد فهو ابن آدم المخلوق، والمال قدرة الله الواسعة، ومحنته (١) إظهار [ ه ] الحكمة والقدرة، والدار الفانية هي الدنيا، وبعض المال الذي ملكه مولاه هو الاستطاعة التي ملك ابن آدم، والامور التي أمر الله بصرف المال إليها هو الاستطاعة لاتباع الانبياء والاقرار بما أوردوه عن الله عزوجل، واجتناب الاسباب التي نهى عنها هي طرق إبليس.
وأما وعده فالنعيم الدائم وهي الجنة، وأما الدار الفانية فهي الدنيا.
وأما الدار الاخرى فهي الدار الباقية وهي الآخرة.
والقول بين الجبر والتفويض هو الاختبار والامتحان والبلوى بالاستطاعة التي ملك العبد.
وشرحها في الخمسة الامثال التي ذكرها الصادق عليه السلام (٢) أنها جمعت جوامع الفضل وأنا مفسرها بشواهد من القرآن والبيان إن شاء الله.
" تفسير صحة الخلقة ": أما قول الصادق عليه السلام فإن معناه كمال الخلق للانسان وكمال الحواس وثبات العقل والتمييز وإطلاق اللسان بالنطق، وذلك قول الله: " ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا (٣) ".
فقد أخبر عزوجل عن تفضيله بني آدم على سائر خلقه من البهائم والسباع ودواب البحر والطير وكل ذي حركة تدركه حواس بني آدم بتمييز العقل والنطق، وذلك قوله: " لقد خلقنا الانسان في أحسن تقويم (٤) ".
وقوله: " يا أيها الانسان ما غرك بربك
___________________________________
(١) أى اختباره وامتحانه.
(٢) اى صحة الخلقة. وتخلية السرب. والمهلة في الوقت. والزاد. والسبب المهيج.
(٣) سورة الاسراء آية ٧٢.
(٤) سورة التين آية ٤.
(*)
[٤٧١]
الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك (١) ".
وفي آيات كثيرة فأول نعمة الله على الانسان صحة عقله وتفضيله على كثير من خلقه بكمال العقل وتمييز البيان، وذلك أن كل ذي حركة على بسيط الارض هو قائم بنفسه بحواسه، مستكمل في ذاته، ففضل بني آدم بالنطق الذي ليس في غيره من الخلق المدرك بالحواس، فمن أجل النطق ملك الله ابن آدم غيره من الخلق حتى صار آمرا ناهيا وغيره مسخر له كما قال الله: " كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم (٢) ".
وقال: " وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها (٣) ".
وقال: " والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تأكلون * ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون * وتحمل أثقالكم إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الانفس (٤) ".فمن أجل ذلك دعا الله الانسان إلى اتباع أمره وإلى طاعته بتفضيله إياه باستواء الخلق وكمال النطق والمعرفة بعد أن ملكهم استطاعة ما كان تعبدهم به بقوله: " فاتقوا الله ما استطتعم واسمعوا وأطيعوا(٥) ". وقوله: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها (٦) ". وقوله: " لا يكلف الله نفسا إلا ما آتيها (٧) "، وفي آيات كثيرة.
فإذا سلب من العبد حاسة من حواسه رفع العمل عنه بحاسته كقوله: " ليس على الاعمى حرج ولا على الاعرج حرج (٨) - الآية - " فقد رفع عن كل من كان بهذه الصفة الجهاد وجميع الاعمال التي لا يقوم بها، وكذلك أوجب على ذي اليسار الحج والزكاة لما ملكه من استطاعة ذلك ولم يوجب على الفقير الزكاة والحج، قوله: " ولله على الناس حج البيت ما استطاع إليه سبيلا (٩) ". وقوله
___________________________________
(١) سورة الانفطار آيات ٦ و ٧ و ٨.
(٢) سورة الحج آية ٣٨.
(٣) سورة النحل آية ١٤. وقوله: " لتأكلوا. اه. " أى لتصطادوا منه السمك وتأكلوا لحمه.
وقوله: " حلية تلبسونها " اى اللؤلؤ والمرجان أنتم ونساؤكم تزينون بها.
(٤) سورة النحل آية ٨.
والدفء: السخانة وهى ما يستدفئ به من اللباس المعمول من الصوف والوبر فيقى البرد.
وقوله: " ولكم فيها جمال " أى لكم فيها مع ما تقدم ذكره تجمل وتزين عند الناظرين اليها حين تريحون وحين تسرحون أى في هذين الوقتين وقت ردها من مراعيها ووقت تسريحها اليها فالرواح: رجوعها بالعشى من المراعى، والسراح: مسيرها إلى مراعيها بالغداة.
(٥) سورة التغابن آيه ١٦.
(٦) سورة البقرة آية ٢٨٦.
(٧) سورة الطلاق آية ٧.
(٨) سورة النور آية ٦٠. وسورة الفتح آية ١٧.
(٩) سورة آل عمران آية ٩١. (*)
[٤٧٢]
في الظهار: " والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة - إلى قوله -: فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا (١) ".
كل ذلك دليل على أن الله تبارك وتعالى لم يكلف عباده إلا ما ملكهم استطاعته بقوة العمل به ونهاهم عن مثل ذلك. فهذه صحة الخلقة. وأما قوله: تخلية السرب (٢). فهو الذي ليس عليه رقيب يحظر عليه ويمنعه العمل بما أمره الله به وذلك قوله فيمن استضعف وحظر عليه العمل فلم يجد حيلة ولا يهتدي سبيلا، كما قال الله تعالى: " إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا (٣) " فأخبر أن المستضعف لم يخل سربه وليس عليه من القول شئ إذا كان مطمئن القلب بالايمان.
وأما المهلة في الوقت فهو العمر الذي يمتع الانسان من حد ما تجب عليه المعرفة إلى أجل الوقت، وذلك من وقت تمييزه وبلوغ الحلم إلى أن يأتيه أجله. فمن مات على طلب الحق ولم يدرك كماله فهو على خير، وذلك قوله: " ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله - الآية - (٤) " وإن كان لم يعمل بكمال شرايعه لعلة ما لم يمهله في الوقت إلى استتمام أمره. وقد حظر على البالغ ما لم يحظر على الطفل إذا لم يبلغ الحلم في قوله: " وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن - الآية - (٥) " فلم يجعل عليهن حرجا في إبداء الزينة للطفل وكذلك لا تجري عليه الاحكام. واما قوله: الزاد فمعناه الجدة (٦) والبلغة التي يستعين بها العبد على ما أمره الله به، وذلك قوله: " ما على المحسنين من سبيل - الآية - (٧) " ألا ترى أنه قبل عذر
___________________________________
(١) سورة المجادلة آية ٤، ٥.
(٢) السرب - بالفتح والسكون -: الطريق، يقال: " فلان مخلى السرب " أى غير مضيق عليه.
(٣) سورة النساء آية ١٠٠.
(٤) سورة النساء آية ١٠٠.
(٥) سورة النور آية ٣١.
(٦) الجدة - بالكسر -: الغنى والقدرة.
(٧) سورة التوبة آية ٩١.
(*)
[٤٧٣]
من لم يجد ما ينفق وألزم الحجة كل من أمكنته البلغة والراحلة للحج والجهاد وأشباه ذلك، وكذلك قبل عذر الفقراء وأوجب لهم حقا في مال الاغنياء بقوله: " للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله - الآية(١)".
فأمر بإعفائهم ولم يكلفهم الاعداد لما لا يستطيعون ولا يملكون.
وأما قوله في السبب المهيج، فهو النية التي هي داعية الانسان إلى جميع الافعال وحاستها القلب (٢) فمن فعل فعلا وكان بدين لم يعقد قلبه على ذلك لم يقبل الله منه عملا إلا بصدق النية ولذلك أخبر عن المنافقين بقوله: " يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم والله أعلم يما يكتمون (٣) ".
ثم أنزل على نبيه صلى الله عليه وآله توبيخا للمؤمنين " يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون - الآية (٤) - " فإذا قال الرجل قولا واعتقد في قوله دعته النية إلى تصديق القول بإظهار الفعل، وإذا لم يعتقد القول لم تتبين حقيقته، وقد أجاز الله صدق النية وإن كان الفعل غير موافق لها لعلة مانع يمنع إظهار الفعل في قوله: " إلا من اكره وقلبه مطمئن بالايمان (٥) " وقوله: " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم (٦) ". فدل القرآن واخبار الرسول صلى الله عليه وآله أن القلب مالك لجميع الحواس يصحح أفعالها، ولا يبطل ما يصحح القلب شئ.
فهذا شرح جميع الخمسة الامثال التي ذكرها الصادق عليه السلام أنها تجمع المنزلة بين المنزلتين وهما الجبر والتفويض. فإذا اجتمع في الانسان كمال هذه الخمسة الامثال وجب عليه العمل كملا لما أمر الله عزوجل به ورسوله، وإذا نقص العبد منها خلة كان العمل عنها (٧) مطروحا بحسب ذلك.
___________________________________
(١) سورة البقرة آية ٢٧٣.
(٢) في بعض النسخ [ وحاسنه العقل ]. وحاسنه اى غالبه في الحسن. أو لاطفه وعامله بالحسنى.
(٣) سورة آل عمران آية ١٦٦.
(٤) سورة الصف آية ٢.
(٥) سورة النحل آية ١٠٦.
(٦) سورة البقرة آية ٢٢٥.
(٧) كذا. والظاهر [ عنه ].
(*)
[٤٧٤]
فأما شواهد القرآن على الاختبار والبلوى بالاستطاعة التي تجمع القول بين القولين فكثيرة. ومن ذلك قوله: " ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم (١) ". وقال: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون (٢) ". وقال: " آلم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون (٣) ".
وقال في الفتن التي معناها الاختبار: " ولقد فتنا سليمان - الآية - (٤) " وقال في قصة موسى عليه السلام: " فإنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري (٥) " وقول موسى: " إن هي إلا فتنتك (٦) ".
أي اختبارك. فهذه الآيات يقاس بعضها ببعض ويشهد بعضها لبعض.
وأما آيات البلوى بمعنى الاختبار قوله: " ليبلوكم فيما آتاكم (٧) "، وقوله: " ثم صرفكم عنهم ليبتليكم (٨) "، وقوله: " إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة (٩)، وقوله: " خلق الموت والحيوة ليبلوكم أيكم أحسن عملا (١٠) "، وقوله: " وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات (١١) "، وقوله: " ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض (١٢) ". وكل ما في القرآن من بلوى هذه الآيات التي شرح أولها فهي اختبار وأمثالها في القرآن كثيرة. فهي إثبات الاختبار والبلوى: إن الله عزوجل لم يخلق الخلق عبثا ولا أهملهم سدى ولا أظهر حكمته لعبا وبذلك أخبر في قوله: " أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا (١٣)".
فإن قال قائل: فلم يعلم الله ما يكون من العباد حتى
___________________________________
(١) سورة محمد آية ٣٣ أى لنعاملكم معاملة المختبر، وذلك بأن نأمركم بالجهاد حتى نعلم من امتثل الامر بالجهاد والصبر على دينه ومشاق ما كلف به. وقوله: " ونبلو أخباركم " أى نظهرها ونكشفها امتحانا لكم ليظهر للناس من أطاع ما أمره الله به ومن عصى ومن لم يمتثل.
(٢) سورة الاعراف آية ١٨١. والقلم آية ٤٤.
(٣) سورة العنكبوت آية ١.
(٤) سورة ص آية ٣٣.
(٥) سورة طه آية ٨٧.
(٦) سورة الاعراف آية ١٥٤.
(٧) سورة المائدة آية ٤٨. والانعام من ١٦٥.
(٨) سورة آل عمران آية ١٥٢.
(٩) سورة القلم آية ١٧.
(١٠) سورة الملك آية ٢.
(١١) سورة البقرة آية ١٢٣.
(١٢) سورة محمد آية ٥. وقوله: " لانتصر " أى لانتقم منهم باستيصال ولكن يريد أن يبلوكم أى ليمتحن بعضكم ببعض فيظهر المطيع من العاصى.
(١٣) سورة المؤمنون آية ١١٠.
(*)
[٤٧٥]
اختبرهم؟ قلنا: بلى، قد علم ما يكون منهم قبل كونه وذلك قوله.
" ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه (١) " وإنما اختبرهم ليعلمهم عدله ولا يعذبهم إلا بحجة بعد الفعل، وقد أخبر بقوله: " ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا (٢) " وقوله: " وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا (٣) ". وقوله: " رسلا مبشرين ومنذرين (٤) ".
فالاختبار من الله بالاستطاعة التي ملكها عبده وهو القول بين الجبر والتفويض.
وبهذا نطق القرآن وجرت الاخبار عن الائمة من آل الرسول صلى الله عليه وآله.
فإن قالوا: ما الحجة في قول الله: " يهدي من يشاء ويضل من يشاء " وما أشبهها؟ قيل: مجاز هذه الآيات كلها على معنيين: أما أحدهما فإخبار عن قدرته أي إنه قادر على هداية من يشاء وضلال من يشاء وإذا أجبرهم بقدرته على أحدهما لم يجب لهم ثواب ولا عليهم عقاب على نحو ما شرحنا في الكتاب، والمعنى الآخر أن الهداية منه تعريفه كقوله: " وأما ثمود فهديناهم " أي عرفناهم " فاستحبوا العمى على الهدى (٥) " فلو أجبرهم على الهدى لم يقدروا أن يضلوا، وليس كلما وردت آية مشتبهة كانت الآية حجة على محكم الآيات اللواتي امرنا بالاخذ بها، من ذلك قوله: " منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم - الآية (٦) - " وقال: " فبشر عباد * الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه " أي أحكمه وأشرحه" اولئك الذين هداهم الله واولئك هم أولوا الالباب (٧) ". وفقنا الله وإياكم إلى القول والعمل لما يحب ويرضى وجنبنا وإياكم معاصيه بمنه وفضله والحمد لله كثيرا كما هو أهله وصلى الله على محمد وآله الطيبين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
___________________________________
(١) سورة الانعام آية ٢٨.
(٢) سورة طه آية ١٣٤.
(٣) سورة الاسراء آية ١٦.
(٤) سورة النساء آية ١٦٣.
(٥) سورة فصلت آية ١٧.
(٦) سورة آل عمران آية ٧.
(٧) سورة الزمر آية ١٩.
(*)
[٤٧٦]